(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ...) الآية [الشعراء : ٣] وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) [فاطر : ٨] (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [النحل : ١٢٧] كان حرصه على إيمانهم بلغ ما ذكر ؛ حتى خفف ذلك عليه بهذه الآيات (١).
وقال بعض أهل التأويل : قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) يعني أهل مكة ، (وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وهم كذلك ؛ كانوا أكثرهم غير مؤمنين ، وأهل مكة وغيرهم سواء كلهم ؛ كذلك كانوا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي : [على](٢) ما تبلغ إليهم وتدعوهم إلى طاعة الله ؛ وجعل العبادة له ؛ وتوجيه الشكر إليه ؛ لا تسألهم على ذلك أجرا ؛ فما الذي يمنعهم عن الإجابة لك فيما تدعوهم ؛ والائتمار بأمرك؟! هذا يدل أنه لا يجوز أخذ الأجر على الطاعات والعبادات ؛ حيث نهى وأخبر أنه لا يسألهم على ما يبلغ إليهم أجرا ، وهو لم يتولّ تبليغ جميع ما أمر بتبليغه بنفسه إلى الخلق كافة ، بقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ...) الآية [سبأ : ٢٨] ولكنه ولى بعضه غيره ؛ كقوله : «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» ؛ فإذا لم يجز له أخذ الأجر فيما يبلغ هو ؛ فالذي كان مأمورا أن يبلغ عنه أيضا لا يجوز أن يأخذ الأجر على ما يبلغ.
وفى قوله : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) وجهان :
أحدهما : أنه ليس يسألهم على الذي يبلغه إليهم ويدعوهم أجرا ؛ حتى يمنع بذل ذلك وثقله عن الإجابة.
والثاني : إخبار أن ليس له أن يأخذ ؛ وأن يجمع من الدنيا شيئا ؛ كقوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ...) الآية [طه : ١٣١] ومعلوم أنه لا يمد عينيه إلى ما لا يحل ؛ فيكون النهي عن أخذ المباح.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ).
أي هذا القرآن الذي تبلغهم ليس إلا ذكرى ؛ وموعظة (٣) للعالمين ، أو هو نفسه عظة وذكرى للعالمين ؛ أعني : النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي شرف وذكرى لمن اتبعه وقام به ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧] ، وقوله : (آيَةً لِلْعالَمِينَ) [العنكبوت : ١٥] أي منفعته تكون لمن اتبعه ؛ فعلى ذلك هذا.
__________________
(١) في أ : الآية.
(٢) سقط في ب.
(٣) في أ : وهو عظة.