على هذه الوجوه تخرج الآية. والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها).
قال بعضهم : لا تحصوها ؛ أي : لا تشكروها ؛ أي : لا تقدروا شكرها. وقال بعضهم (١) : أي : لا تقدروا إحصاءها وعدها ، وهكذا إن أقل الناس نعمة لو تكلف إحصاء ما أعطاه ما قدر عليه ؛ من حسن الجوهر والصورة ، واستقامة التركيب والبنية ، وسلامة الجوارح ، وغير ذلك مما لا سبيل له إلى ذكرها وإحصائها ؛ إلا بعد طول التفكر والنظر.
وقال بعضهم : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ) : لا تحيطوا بكنهها ونهايتها.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).
[لظلوم](٢) : أي : ظلم نفسه ؛ حيث صرفها إلى غير الجهة التي جعلت وأمر ، وأدخلها في المهالك ، وألقاها فى (٣) التهلكة (٤).
كفّار لنعمه ؛ حيث صرف شكرها إلى غير الذي جعلها له. والله أعلم.
واستدل بعض المعتزلة بقوله : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) أن صاحب الكبيرة يخلد في النار ؛ لأنه أوعد بترك الصلاة والزكاة التخليد أبدا ، وترك الصلاة والزكاة من غير عذر ـ من الكبائر ، دل أنه ما ذكرناه.
فنقول نحن ـ وبالله التوفيق ـ : إن الآية تحتمل الأمر بإقامة الصلاة ؛ وما ذكر من الزكاة والصدقة إقامة الإيمان بها ؛ على ما ذكرنا من تأويل بعض المتأولين ، فإن كان على هذا على إقامة الإيمان بها ـ فمن ترك ذلك فهو ـ يخلد أبدا لا شك فيه ، أو يكون من استحل تركها ؛ فهو بالاستحلال يكفر ؛ فهو يخلد ، أو يترك لعذر ؛ فهو لا يخلد على اتفاق القول.
فإذا كان ما ذكرنا محتملا دل أن الآية مخصوصة.
ثم معرفة تخليد صاحب الكبيرة إنما هي بالدلائل سوى هذا ، إذ ليس في ظاهر الآية دلالة التخليد ؛ لما ذكرنا من احتمال الخصوص ، دل أنه إنما يطلب الدليل من وجه آخر.
__________________
(١) قاله البغوي في تفسيره (٣ / ٣٦).
(٢) سقط في ب.
(٣) في أ : إلى.
(٤) وقال ابن الخطيب : كأنه يقول : إذا حصلت النعم الكثيرة ، فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها ، فحصل لك عند أخذها وصفان : وهما : كونك ظلوما كفارا ، ولي وصفان عند إعطائها وهما : كوني غفورا رحيما ، فكأنه ـ تعالى ـ يقول : إن كنت ظلوما فأنا غفور ، وإن كنت كفارا فأنا رحيم ، أعلم عجزك ، وقصورك ، فلا أقابل جفاك إلا بالوفاء.
ينظر : اللباب (١١ / ٣٩٢).