بدء الخلق ولا بعثه. وقال بعضهم : قوله : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) لا يحتمل البعث ؛ لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث ، فلا يحتمل الاحتجاج عليهم بذلك ، ولكن قوله : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) ما سوى البشر ؛ لأنهم إنما ينكرون إعادة البشر ، فأما إعادة غيره من الأشياء لا ينكرونه ؛ نحو إعادة الليل والنهار ، وإعادة الإنزال والنبات ، ونحو الأشياء التي يشاهدونها ، أي : ثم يعيد مثله : الليل ليلا مثله ، والنهار نهارا مثله ؛ وكذلك الخلائق تفنى ثم يعيد مثله ، فإذا ثبت في غير البشر ثبت في البشر.
ويحتمل الأمرين جميعا عندنا البعث وأشياء مثله ؛ لأنه تعليم منه لهم ، ألا ترى أنه قال : (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) قيل : تكذبون بتوحيد الله ، وقد عرفتم أنه هو بدأ الخلق ثم هو يعيده ، لا أحد يملك ذلك ، ألا ترى أنه احتج (١) عليهم ما يلزمهم ذلك بقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ...) الآية [البقرة : ٢٨].
وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) : يحتمل (٢) قوله : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) يدعو إلى الحق فإذا كان هؤلاء الأصنام التي تعبدونها لا يملكون الدعاء إلى شيء ، فلا يملكون الضر والنفع ، ومن الخلائق من لا يملك النفع والضر ، ويملك الدعاء إلى خير أو [إلى](٣) نفع ، فهؤلاء دون الخلائق جميعا ؛ إذ لا يملكون الدعاء ، فكيف يملكون [الضرّ والنفع](٤)؟! يبين عزوجل سفههم بعبادتهم هؤلاء الأصنام ؛ لعلمهم أنهم لا يملكون نفعا ولا ضرّا.
ويحتمل قوله : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي : يبين ويقيم الدلائل والبراهين على [عدم] استحقاق العبادة لهم ، فإذا لم يملكوا الدعاء إلى العبادة لهم ، فكيف يملكون نصب
__________________
(١) زاد في ب : به.
(٢) اعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا ، ثم بالهداية ثانيا ، عادة مطردة في القرآن ، قال ـ تعالى ـ حكاية عن الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] ، وحكى عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ في جوابه لفرعون : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] ، وأمر محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) [الأعلى : ١ ـ ٤].
واعلم أن الإنسان له جسد وروح ، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق ، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية.
والمقصود من خلق الجسد : حصول الهداية للروح ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النحل : ٧٨] ، وهذا كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد ، وأعطى الحواس ؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلم.
ينظر اللباب (١٠ / ٣٢٤).
(٣) سقط في ب.
(٤) في ب : النفع والضر.