وقال أبو بكر : تأويل الوحي أن يعلم الذي يوحي إليه ويرشده ، وذلك من وجهين :
أحدهما : أن الله أرشد كل دابة سوى الإنسان إلى مصلحتها ، والهرب عن مهلكها ومتلفها بما فطرها الله عليه ، كما أرشد الإنسان إلى ما يصلحه في دينه ودنياه بالتعليم ، فمثل الله تعليمه كل دابة ما فيه مصلحتها ومفسدتها بما دبرها عليه ، كما علم الإنسان بالقول والبيان ، فقال : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أي : أرشدها ودلها بفطرتها (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ) بيوتا فيها (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) يعني : واتخذي مما يبني الإنسان لمسكنه.
وقال : العريش : الحيطان التي لا سماء لها ، بفطرتها تتخذ خلاياها في كل ذلك لمنافع الخلق ، ثم قال : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) والثمرات مختلفة الطعم والمنظر والمشم : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) وهو ما سبل الله لها من الرزق والمأوى (ذُلُلاً) قال : يقول : ذلك ذلل لك كل شيء قدره لرزقك ومسلكك ، وذللك في طلب ما سبل لبني آدم وجعلها سببا لمنافعهم وصغر قدرك لديهم فذلك قدرته وسلطانه على ما شاء ؛ ليعلموا أن خالقهم لا يعجزه شيء ، وأنه القدير على ما يعدهم من البعث والثواب والعقاب.
وقوله : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) يقول : الجنس واحد ، ثم هو ضروب كألوان التمر والعنب وسائر الثمار في مذاقه ومشامه ومنظره ، وكله عسل فيه شفاء للناس لمنافعهم وملاذهم وفيما أراهم الله من قدرته على ما يشاء من ذلك ، فيه شفاء لهم في الدين والعلم ، يعلمون بما يشاهدون من تدبير الله وقدرته ، على ما بينا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) يقول : لعبرة ودليلا وبرهانا (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيما يشاهدون من تدبير الله وتقديره وقدرته على ما يشاء ، والله أعلم.
وقال في قوله : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) يقول : ولكم عبرة ودليل أن النخل أجذاع خشب لا طعم فيها والكرم خشب أيضا وما فيهما من سعف وورق لا عسل فيها ولا عنب ، فأخرج الله منهما ثمرات مختلفات ، فيه عسل ، وفيه تمر وزبيب ، وتتخذون منه ما تلذون من الشراب. وقال : هذا قبل تحريم الخمر ، والسكر : كل ما أسكرهم ، وتتخذون منه أيضا رزقا حسنا ، أي : طيبا ، وهو ما تأكلون منها ، سوى ما تشربون ، وتكسبون بها أموالا كثيرة ، منّ الله به عليهم.
وقال بعضهم (١) : السكر : كل شيء حرمه الله من ثمارها من الشراب ، الخمر من العنب ، والسكر من التمر ، والرزق الحسن : ما أحل من ثمرها ، الزبيب ، والتمر ،
__________________
(١) تقدم.