وفي قوله : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) دلالة إثبات البعث من وجهين :
أحدهما : فيما يذكر من قدرته من خلق السموات والأرض وما بينهما [بغلظهما وكثافتهما وشدتهما وعظم خلقتهما](١) ، وأن تلك القدرة خارجة عن وسع البشر وتوهمهم ، فمن قدر على ذلك فهو قادر على إحياء الخلق بعد فنائهم.
والثاني : يخبر عن حكمته من تعليق منافع الأرض بالسماء على بعد ما بينهما ، والإفضال على الخلق بأنواع النعم التي تكبر الإحصاء ، وأن كل شيء منها قد وضع مواضعها ، فلا يحتمل من هذا وصفه في الحكمة يخلق شيئا عبثا باطلا ولو كانوا للفناء لا حياة بعده كان يكون خارجا عن الحكمة ، فظهر أنه خلقهم لأمر أراد بهم ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي : تعلمون أنه هو أحيا الأحياء ، وهو الأموات أيضا وهو كقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨] ، فإذا عرفتم أنه هو يحيي الأحياء وهو يميت الأموات لا غير ، فاعلموا أنه هو يبعثكم وإليه ترجعون ؛ ألزمهم الحجة أولا بالكائن ، ثم أخبرهم عما يكون بالحجة التي ذكر.
وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) : وهو هذا القرآن (٢) قال بعضهم : الموعظة : النهي كقوله : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) [النور : ١٧] قيل : ينهاكم أن تعودوا لمثله أبدا. وقال آخرون : الموعظة هي التي تدعو إلى كل مرغوب وتزجر عن كل مرهوب وقال بعضهم [العظة](٣) هي [التي](٤) تلين كل قلب قاس وتجلى كل قلب مظلم وفي القرآن جميع ما ذكرنا فيه النهي ، وفيه الدعاء إلى كل مرغوب ، والزجر عن كل مرهوب ، وهو يلين القلوب القاسية ويجلي القلوب المظلمة إذا تأملوا فيه ، ونظروا ، وتفكروا تفكر المستشهد وطالب الحق.
وقيل : الموعظة هي التي تلين القلوب القاسية وتدمع العيون اليابسة ، وتجلي الصدور
__________________
(١) بدل ما بين المعقوفين في ب : بغلظها وكثافتها وشدتها وعظم خلقها.
(٢) أما كون القرآن موعظة ؛ فلاشتماله على المواعظ والقصص ، وكونه شفاء ، أي : دواء لجهل ما في الصدور ، أي : شفاء لعمى القلوب ، والصدور موضع القلب ، وهو أعز موضع في الإنسان ؛ لجوار القلب ، قال ـ تعالى ـ : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] وكونه هدى ، أي : من الضلالة ، ورحمة للمؤمنين ، والرحمة : هي النعمة على المحتاج ؛ فإنه لو أهدى ملك إلى ملك شيئا ، فإنه لا يقال : رحمة ، وإن كان ذلك نعمة ؛ فإنه لم يصنعها إلى المحتاج.
ينظر : اللباب : (١٠ / ٣٥٦).
(٣) سقط في ب.
(٤) سقط في ب.