وقوله ـ عزوجل ـ : (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) يحتمل وجهين :
يحتمل ليكون هلاكك آية ، فلا يدعى أحد الربوبية والألوهية مثل ما ادعى هو (١) ، أو يقول : (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي : من شاهدك كذلك غريقا ملقى كان آية له.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) : قال بعض أهل التأويل : يعني أهل مكة (٢) عن آياتنا لغافلون عن هلاك فرعون وقومه لما قالوا : (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) [سبأ : ٤٣] ، و (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ) [القصص : ٣٦] [...](٣) يقول : هم غافلون عما أصاب أولئك ؛ إذ مثل هذا لا يفترى ، أعني : هذه القصص.
ويحتمل (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) ، أي : كثير منهم كانوا غافلين عما أصابهم ، والغفلة تكون على وجهين :
أحدهما : غفلة إعراض وعناد بعد العلم به ومعرفة أن ذلك حق.
والثاني : يغفل بترك النظر والتفكر ؛ فكلا الوجهين مذموم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) : قال عامة أهل التأويل : بوأنا أنزلنا بنى إسرائيل منزل صدق (٤). وقال بعضهم : (بَوَّأْنا) : هيئنا لبنى إسرائيل ، (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) : مهيأ صدق حسنا ؛ كقوله : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ ...) الآية [آل عمران : ١٢١] ، أي : تهيئ للمؤمنين.
وقال بعضهم : قوله : (بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي : مكناهم تمكين صدق ؛ وهو كقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ...) الآية [القصص : ٥ ـ ٦] يحتمل ما ذكر من التبوئة التمكين (٥) الذي ذكر في هذه الآية وقوله (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) قال بعضهم : منزل صدق ، أي : كريم وقال : منزل صدق أي حسن. ويحتمل وجهين آخرين :
أحدهما : أنه وعد لهم أن يمكن لهم في الأرض فأنجز ذلك الوعد ، فهو مبوأ صدق أي تمكين صدق ، حيث أنجز ذلك الوعد وصدق الوعد ما ذكر (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) الآية.
والثاني : (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي : مبوأ أهل صدق لأن الشام كان لم يزل منزل أهل صدق ،
__________________
(١) هذا كأنه على قراءة «خلقك» بالقاف.
(٢) ذكره أبو حيان في البحر (٥ / ١٨٩).
(٣) بياض في الأصول.
(٤) أخرجه بمعناه ابن جرير (٦ / ٦٠٨) (١٧٨٩٦) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٧٠) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الضحاك.
(٥) في أ : التمكن.