قرون) ، نزلت مناطق نفوذهم قبائل عربية كثيرة ، استوطنت بلاد الشام ، وشكّلت لاحقا مرتكزا مهما للفتوحات العربية بعد ظهور الإسلام. كما أدّى الغساسنة دورا في نشر المسيحية بين العرب. والأكيد ، أنهم في هذه المرحلة من الصراعات القومية داخل الإمبراطورية البيزنطية ، والتي اتخذت صيغة الخلافات العقائدية الدينية ، قد ساهموا كثيرا في بلورة الوعي الذاتي العربي ، وبذلك مهدوا الطريق أمام تكريس هذا الوعي بعد الإسلام.
باقتراب القرن السادس الميلادي من نهايته وبداية السابع ، أخذت الأوضاع الذاتية والموضوعية لدخول العرب مسرح التاريخ كقطب رئيسي تتشكل بوتيرة متسارعة ، وذلك بعد أن ظلوا لفترة طويلة هامشيي الأثر في الأحداث الجارية. وبدخولهم هذا ، أسسوا لقيام حضارة عالمية ومادية وروحية ، كان الإسلام مرتكزها وحافزها. ففي الصراع بين الشرق الفارسي ، والغرب الهليني (الروماني ـ البيزنطي) ، أدّى العرب دورا مهما ، وكذلك في النزاعات داخل هاتين الإمبراطوريتين ، الأمر الذي ساعد على تبلور شخصيتهم المتميّزة. ومع ذلك ، ظلوا تابعين لهذه القوة العظمى أو تلك ، ولم يكن زمام أمرهم بأيديهم. وخلال الربع الأخير من القرن السادس ، والأول من القرن السابع ، أنهكت الإمبراطوريتان بعضهما بعضا ، وفتحتا الباب على مصراعيه أمام الفتوحات العربية التي انطلقت من الحجاز ـ مهد الإسلام ـ واجتاحت خلال فترة قصيرة نسبيا ، أراضي الإمبراطورية الفارسية كلها ، وكذلك الجزء الأكبر من أراضي الإمبراطورية البيزنطية.
لقد استنزفت الحرب الطويلة والمستمرة طاقة الإمبراطوريتين ـ الفارسية والبيزنطية ـ عسكريا وماديا ومعنويا. وعندما توصلتا إلى ضرورة وقف القتال بينهما ، نظرا إلى عبثية استمراره من دون القدرة على حسمه ، واتفقتا على الشروط للتعايش ، كان جيشاهما في حالة متدنية من جهة التنظيم والطاقة البشرية والروح القتالية. وفي مسيرة الحرب الطاحنة ، ونتيجة الخسائر الكبيرة في الأرواح والعتاد والأموال ، اضطر الطرفان إلى تجنيد المرتزقة بأعداد كبيرة ، واللجوء إلى رفع الضرائب على السكان والتجارة الدولية ، وذلك لتوفير المال اللازم لتحمل أعباء الحرب المكلفة. وهكذا ، وعندما حانت ساعة المواجهة مع الجيوش العربية ، التي زحفت تحت قيادات مجربة ، ذات قدرات تنظيمية فائقة ، كما تمتعت بروح معنوية عالية ، تحفزها أهداف ذاتية وجماعية مجزية ، ماديا وروحيا ، لم تستطع جيوش الإمبراطوريتين الصمود ، وانهارت بسرعة غير متوقعة.
وعلى العكس من سلوكهما السابق في دعم حليفيهما الحدوديين ـ الغساسنة