على الجانب البيزنطي ، واللخميين على الفارسي ـ عمد الطرفان ، وتحت وطأة الحرب الدائرة بينهما عشية انطلاق الفتوحات العربية ، إلى تهميش دور هذين الحليفين ، ووقف الدعم عنهما ، وأيضا إغراء مقاتليهما من القبائل بالانضمام إلى جيشي الإمبراطوريتين. وقد ترك هذا السلوك حدود الإمبراطوريتين مفتوحة أمام الجيوش العربية ، ومغرية للاختراق ، وذلك بالتعاون مع القبائل العربية التي انقلبت على حليفيها السابقين ، وانحازت إلى الجانب العربي. أمّا الترتيبات الأمنية الحدودية ، التي رعاها الفرس والروم خلال قرون طويلة ، وبصور متعددة ، فقد انهارت أمام حركة الفتوح العربية ، ومن دون مقاومة تذكر. وهيراكليوس ، الذي أطاح بترتيبات جوستنيان مع الغساسنة ، دفع ثمنا غاليا ، غطى على النصر الذي أحرزه في حملاته اللامعة ضد الفرس.
وكان من نتائج الحرب المدمرة بين الإمبراطوريتين ، وما فرضته عليهما من أعباء ، وما استلزمته من تجنيد للإمكانات وحشد للطاقات ، وبالتالي ما ألحقته جراء ذلك من أضرار بالسكان المحليين ، أن راح هؤلاء يضمرون العداء للسلطة ، ويتمنون الخلاص منها. وقد رأوا في العرب الفاتحين فرصة لإزاحة الظلم عن كاهلهم ، وخصوصا بعد أن اكتشفوا الفارق بين تعامل العرب معهم ، بالنسبة إلى سلوك السلطة سابقا ، وعلى الجانبين. وحتى المسيحيين العرب ، ونظرا إلى اعتناقهم العقيدة المونوفيزيتية المناهضة للأورثوذكسية الرسمية البيزنطية ، وتحملهم جراء ذلك الكثير من الاضطهاد على يد السلطة ، رأوا في الفتح العربي ، حتى وهو يحمل لواء الدعوة إلى الإسلام ، طريقا إلى الخلاص من القمع الديني ، الذي كان يغلف تناقضات قومية بين الشعوب المحكومة والسلطة المركزية.
والنتيجة المهمة للحرب بين الفرس والروم ، والخارجة بطبيعة الحال عن إرادة الطرفين المتحاربين ، لكنها ناجمة عن سلوكهما ، هي انتقال التجارة الدولية إلى خطوط أخرى ، تتحاشى المرور في مناطق الصراع ، تفاديا للأخطار والضرائب والمكوس ، في زمن الحرب واختلال الأمن. فازدهرت نتيجة ذلك مراكز جديدة تقع على الطرق البديلة في شبه الجزيرة العربية ، ولعل أهمها مكة المكرمة ، التي تقع على مفترق طرق تؤدي إلى الجهات جميعها. فأضافت مكة بذلك إلى أهميتها الدينية ، التجارة والمال والعلاقات الدولية ، وبالتالي الموقع المتميّز في نظر القبائل في الجزيرة العربية. ومعروف أن مكة كانت ، ومنذ أقدم العصور ، «قبلة الحج» ، به يؤم الناس «بيت الله الحرام» (الكعبة) ، فأصبحت بعد ازدهارها الاقتصادي ، واتساع علاقاتها التجارية والدبلوماسية ، مركزا سياسيا مرموقا أيضا.