لو لا التناقض في الروايات بين المصادر المتعددة ، وخصوصا حول التفصيلات. وكثيرا ما يعكس التناقض في الروايات وجهات نظر لتيارات سياسية ، تشكلت لاحقا ، وحاولت إثبات مواقفها من قضايا حالية استنادا إلى أحداث سالفة. ولكن الأساس يبقى واحدا ، وهو أن العرب ، تحت لواء الإسلام ، حققوا نصرا على القوتين العظميين في ذلك العصر. أمّا المصادر الفارسية فهي معدومة تقريبا ، والبيزنطية قليلة جدا ومبهمة. فكأنما أراد البيزنطيون تجاهل هذا الحدث الكبير تحاشيا للإحراج من الهزيمة النكراء التي حلت بهم ، والتي لم يرغبوا في تصديقها والإقرار بها ، بعد أن كانوا ، ولفترة طويلة ، مقتنعين بسرمدية إمبراطوريتهم ، وتحديدا عاصمتهم ـ القسطنطينية. وهناك مصادر سريانية مهمة عن الفتوحات العربية.
ويستفاد من المصادر التاريخية العربية عن سير الفتوحات أن خالد بن الوليد ، بعد أن أخمد حركة الردة في شرق الجزيرة العربية ، تابع مسيرته بأمر من الخليفة أبي بكر ، إلى العراق ، نحو الحيرة والأنبار وعين التمر ، أي نحو المناطق الآهلة بالقبائل العربية المتنصّرة. أمّا الخليفة نفسه ، ومن معسكره في ذي القصّة ، فقد استنفر قبائل العرب التي انضوت تحت لواء الإسلام ، وجهز منها ثلاثة جيوش ، بحسب الرواية ، وأنفذها إلى بلاد الشام. وبغض النظر عن التباين بالتفصيلات فقد كانت كالتالي : ١) جيش بقيادة عمرو بن العاص ، ووجهته المقاطعتان البيزنطيتان ـ فلسطين الأولى والثالثة ، أي وسط البلاد وجنوبها ؛ ٢) جيش بقيادة شرحبيل بن حسنة ، ووجهته فلسطين الثانية ، أي الغور الشمالي والجليل ومرج ابن عامر والجلعاد (شرقي الأردن) ؛ ٣) والجيش الثالث بقيادة يزيد بن أبي سفيان ، ووجهته دمشق وأطرافها. ويظهر أن الخليفة اختار هؤلاء القادة بناء على علاقات سابقة لهم بالمناطق التي توجهوا إليها.
وعلى كل حال ، فإن أي ترتيب مسبق قد يكون اتخذ في البداية ، لم يصمد على أرض الواقع بعد أن احتدمت الاشتباكات العنيفة. ويبدو أن كلا من الطرفين أخطأ التقدير بالنسبة إلى نوايا الآخر وسلوكه. فالبيزنطيون استخفوا في البداية بحجم الخطر الكامن في هذه الحركة العربية ، واعتبروها غزوة طارئة ، مثلها مثل سابقاتها من العمليات الحدودية بقصد النهب والمغانم ، ولم يسارعوا إلى اتخاذ الإجراءات والإعداد لمواجهة الخطر بما يستوجبه حجمه. أمّا العرب ، فقد أرادوا بداية حصر نشاطهم بالقبائل العربية ، وتحاشي الاشتباك بالجيش البيزنطي النظامي ، بالابتعاد عن مهاجمة المدن ومحاصرتها. غير أن حركة البيزنطيين العسكرية ، وحشد قوات كبيرة ضد عمرو بن العاص في فلسطين ، اضطر القادة العرب إلى التجمع وحشد القوات ،