خوفا من أن يستفرد البيزنطيون بكل منهم على حدة. وبذلك تغيّرت الخطط الأولية ، إن وجدت ، وفرض سير المعارك المسارات اللاحقة.
ولعل المتغيرات التي طرأت على الأرض في مسار القتال ، وما تطلّبه ذلك من تجاوز الترتيبات التي قد تكون اتخذت ، والتوجيهات التي تذكر المصادر أنها صدرت في المدينة قبل الانطلاق ، شكلت جزءا من عملية الإرباك لدى الرواة والمؤرخين التابعين. وكذلك ، فإن تشابك الأحداث وتسارعها ، في غياب الوثائق المعاصرة ، قد أدى إلى تضارب الروايات ، الأمر الذي فتح الباب أمام الرواة والمؤرخين التابعين للتعبير عن أهوائهم السياسية ، من خلال الأخذ الانتقائي عن السلف. ويكاد لا يمر حدث في هذه العملية من فتح بلاد الشام ، والتي دامت نحو خمس سنوات ، من دون أن نجد تباينا بالروايات بشأنه أكان ذلك من ناحية تاريخه ، أو دور الأشخاص فيه ، أو تفصيلاته ، كعدد المشاركين في المعركة مثلا ... إلخ. ولكن بغض النظر عن هذه الفروق الجزئية ، فهناك إجماع على أن الصدامات الأولى بين العرب والبيزنطيين وقعت في جنوب فلسطين ، ثم انتقلت إلى شمالها ، ومنها إلى سورية ـ جنوبها فشمالها. وكان هذا هو مسار عملية الفتوحات بصورة عامة ، ما عدا بعض المدن التي قاومت وطال حصارها قبل أن تستسلم ، مثل قيساريا وغيرها.
ومنذ البداية ، حقق العرب انتصارات مهمة في المعارك التي وقعت في فلسطين (منطقة عمليات عمرو بن العاص) ، لكنها لم تحسم الصراع مع البيزنطيين ، كما لم تؤدّ إلى سقوط البلد بأكمله في أيدي العرب. فالصراع بشأن بلاد الشام حسم في معركة اليرموك (عند الواقوصة ، أو الياقوصة على نهر الرقاد في الجولان) ، وذلك في آب / أغسطس ٦٣٦ م ، إذ انهارت الجيوش البيزنطية ، وانسحبت تاركة شمال سورية مفتوحا أمام الجيوش العربية الظافرة. أمّا في فلسطين ، فبعد الصدامات الأولى بالقرب من غزة (داثن) ، حشد الطرفان قواتهما في أجنادين (بالقرب من بيت جبرين) ، ودارت معركة حقق فيها العرب نصرا كبيرا (٦٣٣ ـ ٦٣٤ م) وبعد ذلك انسحب البيزنطيون إلى بيسان (منطقة عمليات شرحبيل بن حسنة) ، تاركين وسط فلسطين وجنوبها مفتوحا أمام الجيش العربي. ومع سقوط الريف الفلسطيني عامة في أيدي العرب بعد أجنادين ، إلّا إن المدن الكبيرة المهمة ـ بيت المقدس وقيساريا وعسقلان وعكا وغيرها ـ بقيت في أيدي البيزنطيين إلى ما بعد معركة اليرموك.
وبعد أجنادين ، عمدت القوات العربية إلى تثبيت سيطرتها على الريف في فلسطين وشرق الأردن ، ثم ما لبثت ، بعد ستة أشهر ، أن هاجمت بيسان ، التي أخلتها الحامية البيزنطية ، بعد أن فتحت سدود المياه لإغراق الأرض وإعاقة تقدم العرب ،