وموضوعية ، استمرت فترة الهبوط في السلطنة أكثر من ثلاثة قرون ، الأمر الذي يضعها في مصاف سابقتها ، الإمبراطورية البيزنطية ، وفي مدينة القسطنطينية أيضا. وقد بدأ الفساد في القمة ، وراح يتغلغل في جسم الدولة إلى القاعدة. وبينما عوّض بعض الوزراء الأكفاء في البداية عن عجز السلاطين ، وغطوا بنشاطهم عورات بني عثمان ، فإنه في المرحلة الثانية ، كان بقاء السلطنة رهنا بالتوازنات الدولية ، وخصوصا الأوروبية. فاكتسبت السلطنة ، وبجدارة ، لقب «رجل أوروبا المريض» ، ولم تنفع معها محاولات الإصلاح عبر «التنظيمات» المتعددة.
لقد مرّت أيام سليم الثاني ، ابن سليمان (١٥٦٦ ـ ١٥٧٤ م) بسلام نسبي ، ليس بسبب قدراته الشخصية ، وإنما بفضل كفاءة وزيره محمد صقلّي. وفي أيام مراد الثالث (١٥٧٤ ـ ١٥٩٥ م) ، ومن بعده ابنه محمد الثالث (١٥٩٥ ـ ١٦٠٣ م) ، برز الاختلال في مركز السلطنة. فضعف السلطان شجع الإنكشارية على التمادي في طلب زيادة رواتبهم ومكافآتهم ، وبالتالي تواتر تمرداتهم. وهذا الاختلال في المركز أغرى الحكام المحليين والأمراء الإقطاعيين في الأطراف ، بانتهاز الفرصة ومحاولة الاستقلال ، أو على الأقل تحسين شروط العلاقة مع الباب العالي. وقد برز بين هؤلاء الأمير فخر الدين المعني الثاني (١٥٩٠ ـ ١٦٣٥ م) ، الذي انتهز الفرصة لتوسيع نفوذه ، وخصوصا في وقت كان الجيش العثماني مشغولا بالحرب مع الصفويين. واتجه فخر الدين إلى فلسطين ، فاحتل لواء صفد ، وأصبح على تماس مع الأمراء الحارثيين في اللجون ـ آل طراباي ـ من جهة ، ومع والي دمشق ، الذي ظل مواليا للباب العالي ، من جهة أخرى.
وكان المعنيون ، وهم قبيلة عربية درزية ، قد أقاموا سلطتهم الإقطاعية في جبل لبنان أيام المماليك. وفي المعركة بين سليم الأول والغوري ، وقف أميرهم ، فخر الدين الأول على الحياد حتى انجلى الموقف ، فسارع إلى الانحياز إلى المنتصر. وفي مقابل قسم الولاء ، ثبت السلطان العثماني الأمير المعني في إقطاعيته. أمّا فخر الدين الثاني ، الذي تميّز بقصر قامته وعظم طموحه ، فقد تطلع إلى إقامة دولة مستقلة في بلاد الشام. وبالدبلوماسية أخذ من الباب العالي سنجقي بيروت وصيدا ، ميناءين على البحر ، ومنفذين لتجارته وعلاقاته مع أوروبا. ثم انتهز الفرصة لضم طرابلس وبعلبك والبقاع. وما لبث أن توجه نحو فلسطين ، فأخذ صفد وطبرية والناصرة. وراح يتدخل في شؤون الحوران وشرقي الأردن. وعقد تحالفا مع حاكم غزة ضد حكام القدس ونابلس واللجون. ودارت بين الطرفين معارك غير حاسمة ، لم تكن في مصلحة فخر الدين ، لكنها لم تردعه.