وكاد فخر الدين الثاني أن يحقق الأهداف الثلاثة التي وضعها نصب عينيه : إقامة دولة في لبنان الكبير والاستقلال عن السلطنة العثمانية وتطوير دولته وإعمارها. وقد لقي في سعيه للتوسع مقاومة شرسة من حكام فلسطين : أحمد بن طراباي (الحارثي) ، أمير اللجون ، ومحمد بن فرّوخ ، أمير نابلس ، وحسن باشا ، حاكم غزة. والتقى الطرفان في معركة بالقرب من يافا ، هزم فيها فخر الدين ، لكنه سرعان ما راح يستعد لقتال جديد. ولما تفاقم أمره ، استصدر والي دمشق ، أحمد باشا الحافظ فرمانا سلطانيا بالتحرك ضده وإخضاعه. وعندما شعر أن لا قبل له بمواجهة هذا التحالف ، سلم فخر الدين زمام الأمور لأخيه ، وهرب إلى إيطاليا ، وأقام عند حليفه ، فرديناند مديتشي ، دوق تسكانيا الأكبر ـ لمدة خمس سنوات (١٦١٣ ـ ١٦١٨ م). وخلال هذه الفترة كان فخر الدين يعد التحالفات مع بعض القوى الأوروبية ، لإقامة دولة مستقلة على الساحل السوري ، تكون لها علاقات تجارية وثقافية مع أوروبا. وفي غيابه أخذت من أخيه الأراضي جميعها التي احتلها ، وجعلت ولاية مركزها صيدا ، وتضم صور وبيروت وصفد.
لم تكن أوروبا في حينه مهيّأة لعمل عسكري في الشرق. وزيارة فخر الدين لفرسان مالطا (الصليبيين) ، لم تتمخض عن نتائج عملية لإعادة بناء دولة الفرنجة في فلسطين. لكن فخر الدين عقد معاهدات تجارية ، وخصوصا مع دوق تسكانيا ، الذي وعد بدوره بتقديم المساعدة لفخر الدين في سعيه للاستقلال عن الدولة العثمانية. وعاد فخر الدين إلى لبنان (١٦١٨ م) ، بوساطة حلفائه لدى الباب العالي. لكن هذا الأمير الطموح لم يلبث أن انتهز فرصة حرب السلطان مع الصفويين ، الذين احتلوا بغداد (١٦٢٣ م) ، وراح يوسع ممتلكاته ، فأخذ سناجق صفد ونابلس وغزة وعجلون. ومرة أخرى اصطدم بالمقاومة العنيدة التي أبداها أحمد بن طراباي. وزادت أهمية فخر الدين وهيبته بعد أن هزم حملة جردها ضده والي دمشق ، مصطفى باشا (١٦٢٣ م) ، وذلك في معركة عنجر (البقاع اللبناني).
إزاء تعاظم قوة فخر الدين ، من جهة ، وتفاقم الحرب مع الصفويين ، من جهة أخرى ، وفي غياب قدرة الحكام المحليين في بلاد الشام على التصدي له ، اعترف به مراد الرابع (١٦٢٣ ـ ١٦٤٠ م) واليا على عربستان ، من حلب إلى حدود العريش ، لقاء دفع الضرائب وحفظ الأمن (١٦٢٤ م). أمّا فخر الدين ، فقد عمد من جانب واحد وأطلق على نفسه لقب سلطان البرّ ، وبدأ يعارض المصالح العثمانية. ولم يقف عند هذا الحد ، بل عاد إلى فتح المفاوضات مع أوروبا ، إذ طرحت مسألة إقامة دولة مسيحية في الشرق ، مع ممثلي ملك إسبانيا. ولما استفحل أمر فخر الدين على الباب