سابق عهده ، أي إلى ما قبل الحملة المصرية عليها ، زادت الدول الأوروبية نفوذها ، ليس في هذه البلاد فحسب ، بل في أراضي السلطنة العثمانية بصورة عامة. وبينما لم تترسخ إجراءات إبراهيم باشا ، لم تفلح السلطة العثمانية في إحكام قبضتها على نواحي البلاد جميعها. وعادت منطقة الجبال الوسطى إلى النزاعات العشائرية ، وإلى الصراعات القبلية ، بين القيسية واليمينة ، وإلى تصفية الحسابات القديمة ، الأمر الذي أدّى إلى اضطراب حالة الأمن. وعاد الشيخ أبو غوش ، الذي تزعم العصبية اليمنية إلى فرض سلطته على طريق يافا ـ القدس ، وجباية الضرائب من المسافرين عليها. واضطر العثمانيون إلى الاعتراف ببعض زعماء العشائر حكاما في مناطقهم ، الأمر الذي استثار آخرين ، وبالتالي إلى نشوب الصراعات بينهم بصورة متواترة. وقد استغلت السلطة هذه الصراعات لإضعاف الجميع ، تعويضا عن تقصيرها في فرض هيبتها عليهم وإحكام قبضتها على مناطقهم.
ولدى استعادته بلاد الشام ، لم يعد الباب العالي إلى نظام حكم الباشوات السابق فيها ، وإنما نزع عنها الصفة شبه المستقلة التي كانت لها في الماضي ، وألحقها بالمركز مباشرة. ومنذ البداية أقيمت الإدارة الجديدة على أساس المركزية الشديدة والتتريك ، فاستبدل الموظفون المحليون بآخرين أتراك ، وفي جميع المناصب ذات الأهمية. واعتمد الباب العالي أسلوب نقل الموظفين سنة بعد أخرى ، ومن مهمة إلى غيرها. وسحب من الموظفين الحق في إصدار عقوبة الإعدام ، وأخضعهم للرقابة والمحاسبة على سوء استعمال السلطة. وإذ استقرت الأوضاع نسبيا في الساحل والشمال ، فقد ظلت منطقة الجبال الوسطى مضطربة ، وعمد العثمانيون (١٨٥٤ م) إلى جعل القدس ولاية مستقلة ، تابعة لإستنبول مباشرة ، في محاولة للسيطرة على الوضع الأمني فيها ، من جهة ، ولمراقبة نشاط القنصليات الأجنبية ، من جهة أخرى. وألحق بهذه الولاية سنجقا نابلس وغزة. واستطاع الوالي مصطفى ثريا أن يوطد الأمن ، ويحول دون اندلاع الاقتتال الطائفي في القدس ومحيطها ، أسوة بما جرى في لبنان ودمشق (١٨٦٠ م).
وفي إطار التنظيمات الإدارية التي أدخلتها السلطنة في هذه الفترة ، صدر قانون تشكيل الولايات (١٨٦٤ م) ، الذي وضع إطارا موحدا للإدارة في الولايات كلها. وبموجبه قسمت بلاد الشام إلى ولايتين : سورية وحلب. وكل ولاية قسمت إلى متصرفيات (سناجق) ؛ والمتصرفيات إلى قائمقاميات (أقضية) ؛ والأقضية إلى مديريات (نواح). وعيّن على كل وحدة إدارية موظف تركي ، يتبع الأعلى منه بحسب التسلسل والاختصاص : مدير ـ قائمقام ـ متصرف ـ والي. وأصبح الوالي يتبع وزارة الداخلية