(بلاد سومر) ، هو السبّاق لقيام مثل هذه المدن ـ الدولة ، وتبعته مصر. أمّا بلاد الشام فقد تأخرت عنهما ، كمّا ونوعا. ومع أنها شهدت في هذا العصر قيام المدن ، إلّا إنها ظلت من حيث الحجم والموارد أصغر من أن تشكل الندّ لمدن كل من العراق ومصر.
ومن المتفق عليه عموما الآن ، أن الانتقال من مجتمع القرية إلى حضارة المدينة ـ الدولة وقع في وادي دجلة والفرات الأسفل. أمّا الأسباب التي أدّت إلى هذا التطور النوعي ، فيدور بشأنها نقاش واسع بين المؤرخين ، والطروحات عندهم متباينة. فهناك من يرى أن ظاهرة قيام المدن كانت النتيجة الطبيعية لتقدم القرى وازدياد عدد سكانها ، وامتلاكها الخبرات والأدوات والمؤسسات ... إلخ. ويذهب البعض إلى حدوث طفرة درامية ، أدّى استعمال المعادن دورا كبيرا فيها. وهناك من يعود إلى نظرية المناخ ، وبالتالي الجفاف ، وضرورة اللجوء إلى زراعة الريّ ، وتنظيم المجتمع على هذا الأساس. كما يطرح البعض هجرات جديدة من الشعوب ، حملت معها سمات حضارتها من مواطنها الأصلية.
وإذ توجد دلائل تدعم وجهات النظر أعلاه كلها ، فليس من المستبعد تضافر عوامل متعددة لإيجاد ظاهرة المدينة ـ الدولة. ومهما يكن الأمر ، فإنه نحو سنة ٤٠٠٠ ق. م. ، حدث انتقال مفاجىء في نمط حياة سكان وادي دجلة والفرات ، وخصوصا في الجزء الأسفل منه. ففي هذا الجزء توفرت أرض خصبة ، قابلة للاستصلاح بقليل من الجهد ، وكذلك تنظيم عملية الريّ ، أو صيانة الحقول من الفيضانات الجارفة. وفي الأرض الرخوة التي تخلفها مياه الأنهار لدى انحسارها بعد الفيضان ، إضافة إلى مناخ حار ، تنمو المزروعات بسرعة إذا توفرت مياه الري في أشهر القيظ. وكذلك ، ففي المستنقعات ثروة سمكية غنية ، كما أن التمور في جنوب العراق رفدت سلّة غذاء الناس في تلك المنطقة.
وتشير المعلومات المتوافرة إلى أنه نحو سنة ٤٠٠٠ ق. م. ، ظهرت في جنوب العراق مدن كبيرة ، لا تقل بحجمها عن المستوطنات التي تسقيها مياه الأمطار الغزيرة. وهذا يدل على أن الناس في تلك المنطقة ـ حيث معدل سقوط الأمطار يتدنى إلى حد الانقطاع ـ قد ابتكروا أساليب للريّ ، بدءا في جوار مجاري الأنهار ، ثم راحوا يوسعون الرقعة المروية ببناء سدود أكبر وأفضل ، وبطرق أكثر تعقيدا. ونحو سنة ٣٥٠٠ ق. م. ، كانت حضارة المدن السومرية قد تأسست ، وهو ما يدل على أن هذا الشعب قد امتلك القدرة ، عبر تنظيم المجتمع ، وتشكيل سلطة مركزية ، على بناء أنظمة ريّ متطورة ، سمحت له باستغلال الإمكانات الزراعية المتوفرة في وادي نهري دجلة والفرات الأسفل.