الاُمم ، وتسرب الحصافة إلى عقولهم ، وتسلل الحضارة إلى حياتهم.
ويفصح عمّا ذكرنا قوله سبحانه : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا ... ) ( الشورى ـ ١٣ ) فقد وصّى نبيّنا محمداً بما وصّى به نوحاً ، من توحيده سبحانه وتنزيهه عن الشرك ، والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، والتنديد بالجرائم الخلقية ، والقضاء على أسبابها ، إلى غير ذلك ممّا تجده في صحف الأوّلين والآخرين.
وتتجلى تلك الحقيقة الناصعة ، أي وحدة الشرائع السماوية ، جوهراً من مختلف الآيات في شتى المواضع ، قال سبحانه : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) ( آل عمران ـ ١٩ ) وظاهر الآية يعطي أنّ الدين عند الله ـ لم يزل ولن يزال ـ هو الإسلام في طول القرون والأجيال ، ويعاضدها قوله تعالى : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ) ( آل عمران ـ ٨٥ ).
وقد نبّه سبحانه في مورد آخر على خطأ اليهود والنصارى في رمي ـ بطل التوحيد ـ إبراهيم باليهودية والنصرانية ، وقال : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران ـ ٦٧ ).
نعم المراد من الإسلام في الآيتين هو التسليم لله والامتثال لأوامره ونواهيه لا المعنى العلمي منه ، الذي يقابل اليهودية والنصرانية.
وقد سئل علي عليهالسلام عن حقيقة الإسلام ، فقال : « لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين » (١) ففسّر الإسلام بالتسليم له سبحانه ، وحقيقة التسليم هنا هو إرجاع الأمر والنهي إليه سبحانه ، فالواجب ما أمر به والحرام ما نهى عنه ، لا ما أمر به الأحبار والرهبان ، أو نهوا عنه ، ولا يتحقق التسليم إلاّ برفض تحكيم الرجال في الشريعة ، ورد آراء الناس والأحبار والرهبان في الحلال والحرام.
فحقيقة الشرائع السماوية في جميع الأدوار والأجيال كانت أمراً واحداً وهو
__________________
(١) نهج البلاغة : المختار من الحكم ١٢٥.