فيشاهد جمال الحق ويفني ذاته فيه ، ولأجل ذلك يسمى مقام الفناء. وعندما ينتهي السفر الأوّل يأخذ السالك في السفر الثاني ، وهو السفر من الحق إلى الحق بالحق وإنّما يكون بالحق لأنّه صار ولياً ، وصار وجوده وجوداً حقّانياً ، فيأخذ السلوك من موقف الذات إلى الكمالات واحداً بعد واحد حتى يشاهد جميع كمالاته فيعلم جميع أسمائه كلّها إلاّ ما استأثر به عنده ، فتصير ولايته تامة ، ويفني ذاته وأفعاله وصفاته في ذات الحق وصفاته وأفعاله ، فبه يسمع ، وبه يبصر وبه يمشي وبه يبطش ، وحينئذ تتم دائرة الولاية.
ولعمري لولا خوف الإطالة ، والخروج عمّا هو الهدف الأسمى للرسالة ، لشرحت للقارئ الكريم ، تلكم الاسفار والمواطن واحداً بعد واحد ، وكفانا ما حبرته يراعة العرفاء الشامخين في هذا الباب (١).
وفي الاُمّة الإسلامية رجالاً مخلصون ، لا يدرك شأوهم ولا يشق غبارهم ، اُولئك أولياء الله في أرضه وخلفاؤه في خلقه ، تغبطهم النبوّة ، كما قال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّ لله عباداً ليسوا بأنبياء ، تغبطهم النبوّة (٢).
هب أنّ النبوّة قد اُوصد بابها ، إلاّ أنّ باب الفيض المعنوي ، من جانب الإمام الحي عليهالسلام بعد مفتوح لم يوصد (٣).
__________________
(١) راجع تعاليق الأسفار الأربعة ج ١ ص ١٣ ـ ١٨ للحكيم السبزواري.
(٢) حكاه صدر المتألّهين في مفاتيح الغيب ، وقال : هذا الحديث ممّا رواه المعتبرون من أهل الحديث ، من طريقة غيرنا ، نعم لم أقف عليه مسنداً حتى اُحقق حاله.
(٣) وقد دلّت البراهين الكلامية على أنّ الأرض لا تخلو عن حجّة ، وأنّه لا بد للناس في كل دورة وكورة من إمام معصوم يهدي إلى الرشد ـ وقد تفرّدت به الشيعة عن سائر فرق الإسلام.
وقال أمير المؤمنين : اللّهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة : أمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً ، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته وكم ذا وأين اُولئك ؟ اُولئك ـ والله ـ الأقلون عدداً والأعظمون عند الله قدراً ، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعونها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقه بالمحل الأعلى ، اُولئك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلى دينه ، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم ( نهج البلاغة باب الحكم رقم ١٤٧ ).