وأخذها كما تقول : استكب الماء واصطبه : إذا سكبه وصبّه لنفسه وأخذه (١) وكأنّه يريد أن يفهم أنّ زيادة التاء في « اكتتبها » للدلالة على أنّ كتابته كانت لنفسه بخلاف المجرد عنها كقولنا « كتب فلان » فإنّه أعم من أن يكون ذلك لنفسه أو لغيره.
وقال الشيخ الطوسي : اكتتبها هو وانتسخها فهي تملى عليه حتى ينسخها (٢) وجه الاستدلال ، أنّ المشركين قالوا : إنّ القرآن أساطير كتبها محمد لا من تلقاء نفسه بل بالإملاء عليه من غير ، فقولهم : يكتب الأساطير بإملاء الغير عليه ، صريح في أنّه بعد الايحاء إليه كان كاتباً يكتب القرآن ، وبما أنّ الكتابة صفة كمال لا ينسبها إليه خصومه كذباً وافتراء فلا بد أن تكون ثابتة له في تلك الحال (٣).
ولكن ما أقامه من الدليل موهون جداً فإنّ الكتابة وإن كانت صفة كمال إلاّ أنّ شهادة الخصم إنّما تدل على اتصافه بها إذا كانت الشهادة صادرة عن خلوص وصفاء وأمّا إذا جعلها ذريعة لإنكار نبوّته ، فلا يعد رميه بها دليلاً على صدق النسبة فإنّ القوم لما عجزوا عن الوقيعة في قرآنه ولم يتمكنوا من معارضته ومباراته دخلوا من باب آخر ، حتى يفتحوا بذلك باب الريب على نبوّته وكتابه وقالوا إنّ هنا من يملي عليه القرآن بكرة وأصيلاً ، وهو يكتب ما يملى عليه ولا هدف لهم من تلك الفرية إلاّ التشكيك في نبوّته ونزول الوحي عليه ولولا ذلك لما وصفوه بها ولا بغيرها من الصفات ، فإنّ التوصيف ، بأدنى مراتب الكمال ، يخالف ما يرمون إليه من انتقاصة.
على أنّ هنا في لفظة « اكتتبها » احتمالاً آخر وهو أنّه أمر بالكتابة والاستنساخ ، احتمله الرازي بل اختاره وقال : معنى « اكتتب » ههنا ، أنّه أمر أن يكتب له كما يقال : « احتجم » و « افتصد » إذا أمر بذلك (٤).
إلى هنا تم ما وقفنا عليه من الأدلّة القرآنية التي أقامها القائلون على أنّ النبي كان قارئاً وكاتباً بعد نزول الوحي عليه ، وقد عرفناك وهن الجميع ، ووقفت على ما فيها من
__________________
(١) الكشاف ج ٢ ص ٤٠٠.
(٢) التبيان ج ٧ ص ٤٧٢.
(٣) تفسير الآيات المتشابهات ص ٤٧ ـ ٤٨.
(٤) مفاتيح الغيب ج ٦ ص ٣٥٣.