وتم الاستعداد ، ارتقت نفسه إلى ذلك الحد الأسمى فانحسرت عن قلبه الأغطية وارتفعت عنه الحجب ، حيث أخذ يعاين الأشياء على ما هي عليه ، ويقف على الحقائق على النحو الذي يليق به ويقدر على تلاوة ما لم يكن قادراً عليها.
وقد تحققت تلك الغاية وبلغت نفسه الشريفة إلى ذلك الحد في الشهر الذي اختاره الله تعالى فيه رسولاً إلى الناس ، فجاءه أمين الوحي بلوح برزخي يحتوي على آيات من القرآن الكريم فعرضه على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وطلبه منه أن يقرأه فأبى وتجافى عن قراءته قائلاً بأنّه اُمّي لا يقرأ ولا يكتب ، وأنّه ماقرأ وما كتب طيلة عمره فغطه الأمين ثلاث مرات فإذا به يقرأ.
نحن لا نعلم كنه هذا الغط ولا نستطيع إدراكه ، وليس هو إلاّ أثراً مادّياً لأمر معنوي كاماطة الستر عن روحه وقلبه ، وهذا أمر طبيعي في مثل هذا الموقف العظيم الجليل الذي تنوء به أجسام وأرواح البشر ، فإنّ لكل عمل روحي ولا سيما لمثل كشف الغطاء أثراً خاصاً في أبداننا ، والأثر البارز المادي لكشف الغطاء عن قلب النبي ونفسه ، هو الغط الذي أحسّه في ذلك الحين ، وإلاّ فالغط المادي لا مدخلية له في القدرة على القراءة والتلاوة.
هكذا كانت هذه اللحظة الحاسمة من حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم منعطفاً رائعاً إلى مرحلة جديدة ، فكشف عنه الغطاء آن الغط ، فقدر على قراءة ما لم يقدر عليه فعرف الحروف والنقوش ، بل الحقائق فصار أكمل إنسان يطأ الأرض بقدميه ، ويعيش في اديمها ويتظلّل بسمائها.
وهذا البيان منضمّاً إلى ما سمعته من حديث بدء الوحي يدفعنا إلى القول بأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد انقلبت حاله بعد البعثة بإعجاز من الله سبحانه واقدار منه تعالى. غير أنّ ما ذكرنا مبني على صحة الحديث واتصال سنده إلى النبي ولكنّك عرفت أنّ الحديث مقطوع غير موصول بالنبي الأكرم فلاحظ.