السماء وراثة عن أب وجد ، وهذا أقوى دليل على أنّ المتبادر في عصر الرسالة وبعده ، من العلم بالغيب هو القسم اللائق بساحته سبحانه.
وكون العلم اكتسابياً أو غير اكتسابي ليس من المفاهيم الغامضة التي لا ينقدح في الافهام الوسطى فضلاً عن العليا ، فإنّ الانسان العارف بالله ، مهما تنازل وبعد عن المعارف ، يقف على أنّ هنا موجوداً غنياً من جميع الذات والغنى نفسه وذاته فوجوده وعلمه وقدرته وحياته ثابت له من دون استناد إلى غيرها ، وانّ هنا موجوداً فقيراً ومخلوقاً لغيره يعتمد في كل كمال وجمال إلى خالقه وبارئه ولا نعني من الذاتي والاكتسابي غير هذا.
وإلى ما ذكرنا يشير شيخ الاُمّة الشيخ المفيد رحمهالله بقوله :
« إنّ الأئمة من آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد ، يعرفون ما يكون قبل كونه ، وليس بواجب في صفاته ولا شرطاً في إمامتهم وإنّما أكرمهم الله تعالى وأعلمهم إياه للطف في طاعتهم والتمسك بإمامتهم وليس ذلك بواجب عقلاً ولكنه وجب لهم من جهة السماع ، فأمّا اطلاق القول عليهم بأنّهم « يعلمون الغيب » ، فهو منكر بيّن الفساد ، لأنّ الوصف بذلك إنّما يستحقه من علم الأشياء بنفسه ، لا بعلم مستفاد وهذا لا يكون إلاّ لله عزّ وجلّ وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلاّ من شذ عنهم من المفوضة ومن انتمى إليهم من الغلاة » (١).
فالتوفيق بين قوله : « اطلاق القول عليهم بأنّهم يعلمون الغيب بيّن الفساد » وقوله عليهالسلام : « بأنّهم يعلمون ما في الضمائر » لا يحصل إلاّ بما ذكرنا ، بل هو صريح كلامه لمن أمعن فيه النظر.
قال رشيد الدين محمد بن شهر آشوب (٢) : النبي والإمام يجب أن يعلما علوم
__________________
(١) أوائل المقالات ص ٣٨.
(٢) أحد أقطاب التفسير والحديث في القرن السادس توفّي عام ٥٨٨ ، وله المناقب وأسباب نزول القرآن ، ومتشابهات القرآن كما صرح به في معالمه.