٤. إنّ للعلم أثراً في انتخاب أحد الأمرين من الفعل والترك وجلب النفع ودفع الضرر ، فالانسان الفاعل بالعلم والإرادة ، إنّما يقصد ما علم أنّه يفيده ، ويهرب ممّا علم أنّه يضره ، فللعلم تأثير في انتخاب أحد الفعلين وفي فعل شيء أو تركه.
٥. علم الانسان بالخير والنفع وكذا علمه بالشر والضرر في الحوادث المستقبلة إنّما يؤثّر إذا تعلّق بأمر ممكن غير مقضي ، وذلك مثل أن يعلم الانسان أنّه لو حضر مكاناً كذا ، في ساعة كذا ، من يوم كذا ، قتل قطعاً ، فلهذا العلم تأثير خاص في ترك الحضور في المكان المعين ، تحرّزاً من القتل ، وأمّا إذا تعلّق العلم بالضرر مثلاً من جهة كونه ضروري الوقوع واجب التحقق ، كما إذا علم أنّه في مكان كذا ، ساعة كذا ، من يوم كذا ، مقتول لا محالة بحيث لا ينفع في دفع القتل عنه عمل ، ولا تحول دونه حيلة ، فإنّ مثل هذا العلم ، لا يؤثر في الانسان شيئاً ولا يبعثه إلى نوع من التحرز والالتقاء لفرض علمه بأنّه لا ينفع فيه شيء من العمل فهذا الانسان مع علمه بالضرر المستقبل ، يجري في العمل مجرى الجاهل بالضرر.
إذا علمت ذلك ثمّ راجعت الأخبار الناصة على أنّ الذي علمهم الله تعالى من العلم بالحوادث التي لا بداء فيه ولا تخلف ، ظهر لك اندفاع ما أورد على القول بعلمهم بعامة الحوادث ، من أنّه لو كان لهم علم بذلك لاحترزوا مما وقعوا فيه من الشر ، كالشهادة قتلاً بالسيف أو بالسم ، لحرمة إلقاء النفس في التهلكة.
وجه الاندفاع أنّ علمهم بالحوادث علم بها من جهة ضرورتها كما هو صريح نفي البداء عن علمهم (١) والعلم الذي هذا شأنه لا أثر له في فعل الانسان ببعثه إلى نوع من التحرز ، وإذا كان الشر بحيث لا يقبل الدفع بوجه من الوجوه ، فالابتلاء به وقوع في التهلكة لا القاء فيها ، قال تعالى : ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ
__________________
(١) يشير رحمهالله إلى ما روي عن أبي جعفر عليهالسلام : العلم علمان فعلم مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، وعلم علّمه ملائكته ورسله فما علّمه ملائكته ورسله ، فإنّه سيكون لا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم مخزون يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء الكافي باب البداء ج ١ ص ١٤٨.