القرآن في عدة آيات تتحدى العرب بأن يأتوا بسورة مثله ، وبعشر سورة مثله مما هو معلوم ، ناهيك أن القرآن نادى بأنه معجز لهم ، نحو قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) [البقرة : ٢٣ ، ٢٤] الآية فإنه سهّل وسجّل : سهّل عليهم أن يأتوا بمثل سورة من سوره ، وسجّل عليهم أنهم لا يفعلون ذلك أبدا ، فكان كما سجّل ، فالتحدي متواتر وعجز المتحدّين أيضا متواتر بشهادة التاريخ إذ طالت مدتهم في الكفر ولم يقيموا الدليل على أنهم غير عاجزين ، وما استطاعوا الإتيان بسورة مثله ثم عدلوا إلى المقاومة بالقوة. قال الله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) الآية من سورة البقرة [٢٣ ، ٢٤]. وقال : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سورة يونس [٣٨] وقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) سورة هود [١٣ ، ١٤]. فعجز جميع المتحدّين عن الإتيان بمثل القرآن متواتر بتواتر هذه الآيات بينهم وسكوتهم عن المعارضة مع توفر دواعيهم عليها.
وقد اختلف العلماء في تعليل عجزهم عن ذلك فذهبت طائفة قليلة إلى تعليله بأنّ الله صرفهم عن معارضة القرآن فسلبهم المقدرة أو سلبهم الداعي لتقوم الحجة عليهم بمرأى ومسمع من جميع العرب ، ويعرف هذا القول بالصّرفة كما في «المواقف» للعضد و«المقاصد» للتفتازاني (ولعلها بفتح الصاد وسكون الراء وهي مرة من الصرف وضع بصيغة المرة للإشارة إلى أنها صرف خاص فصارت كالعلم بالغلبة) ولم ينسبوا هذا القول إلّا إلى الأشعري فيما حكاه أبو الفضل عياض في «الشفاء» وإلى النّظام والشريف المرتضى وأبي إسحاق الاسفرائيني فيما حكاه عنهم عضد الدين في «المواقف» ، وهو قول ابن حزم صرح به في كتاب «الفصل» ص ٧ جزء ٣ ، ص ١٨٤ جزء ٢ وقد عزاه صاحب «المقاصد» في شرحه إلى كثير من المعتزلة.
وأما الذي عليه جمهرة أهل العلم والتحقيق واقتصر عليه أئمّة الأشعرية وإمام الحرمين وعليه الجاحظ وأهل العربية كما في «المواقف» ، فالتعليل لعجز المتحدّين به بأنه بلوغ القرآن في درجات البلاغة والفصاحة مبلغا تعجز قدرة بلغاء العرب عن الإتيان بمثله ،