طريقة واحدة تشابهت فنونها فكادوا لا يعدون ما ألفوه من ذلك حتى إنك لتجد الشاعر يحذو حذو الشاعر في فواتح القصائد وفي كثير من تراكيبها ، فكم من قصائد افتتحت بقولهم : «بانت سعاد» للنابغة وكعب بن زهير ، وكم من شعر افتتح ب :
يا خليليّ أربعا واستخبرا
وكم من شعر افتتح ب :
يا أيها الراكب المزجي مطيته |
|
وقال امرؤ القيس في معلقته : |
وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم |
|
يقولون لا تهلك أسى وتحمل |
فقال طرفة في معلقته بيتا مماثلا له سوى أن كلمة القافية منه «وتجلّد».
وكذلك القول في خطبهم تكاد تكون لهجة واحدة وأسلوبا واحدا فيما بلغنا من خطب سحبان وقس بن ساعدة. وكذلك أسجاع الكهان وهي قد اختصت بقصر الفقرات وغرابة الكلمات. إنما كان الشعر الغالب على كلامهم ، وكانت الخطابة بحالة ندور لندرة مقاماتها. قال عمر «كان الشعر علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه» فانحصر تسابق جياد البلاغة في ميدان الكلام المنظوم ، فلما جاء القرآن ولم يكن شعرا ولا سجع كهان ، وكان من أسلوب النثر أقرب إلى الخطابة ، ابتكر للقول أساليب كثيرة بعضها تتنوع بتنوع المقاصد ، ومقاصدها بتنوع أسلوب الإنشاء ، فيها أفانين كثيرة فيجد فيه المطلع على لسان العرب بغيته ورغبته ، ولهذا قال الوليد بن المغيرة لما استمع إلى قراءة النبي صلىاللهعليهوسلم : «والله ما هو بكاهن ، ما هو بزمزمته ولا سجعه ، وقد عرفنا الشّعر كله رجزه وهزجه ، وقريضه ومبسوطه ، ومقبوضه ما هو بشاعر».
وكذلك وصفه أنيس بن جنادة الغفاري الشاعر أخو أبي ذر حين انطلق إلى مكة ليسمع من النبي صلىاللهعليهوسلم ويأتي بخبره إلى أخيه فقال : «لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعته على أقراء الشّعر (١) فلم يلتئم ، وما يلتئم على لسان واحد بعدي أنه شعر» ثم أسلم. وورد مثل هذه الصفة عن عتبة بن ربيعة والنّضر بن الحارث ، والظاهر أن المشركين لما لم يجدوا بدّا من إلحاق القرآن بصنف من أصناف كلامهم ألحقوه بأشبه
__________________
(١) الأقراء جمع قرء وهو الطريق.