محيص لهم عن الرجوع إلى الخوف في أحوال كثيرة والطمع في أحوال أكثر. وأعظم دليل على ما قلنا أن الله تعالى مدح في كتابه المتقين في مواضع جمة ودعا إلى التقوى ، وهل التقوى إلا كاسمهما بمعنى الخوف والاتقاء من غضب الله قال تعالى : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) [الإسراء : ٥٧]. والمرتبة الثالثة هي التي أشار لها قوله صلىاللهعليهوسلم ـ لمن قال له كيف تجهد نفسك في العبادة وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال : ـ «أفلا أكون عبدا شكورا» لأن من الظاهر أن الشكر هنا على نعمة قد حصلت فليس فيه حظ للنفس بالطمع في المزيد لأن الغفران العام قد حصل له فصار الشكر لأجل المشكور لا غير وتمحض أنه لا لخوف ولا طمع (١).
واعلم أن من أهم المباحث البحث عن سر العبادة وتأثيرها وسر مشروعيتها لنا وذلك أن الله تعالى خلق هذا العالم ليكون مظهرا لكمال صفاته تعالى : الوجود ، والعلم ، والقدرة. وجعل قبول الإنسان للكمالات التي بمقياسها يعلم نسبة مبلغ علمه وقدرته من علم الله تعالى وقدرته ، وأودع فيه الروح والعقل اللذين بهما يزداد التدرج في الكمال ليكون غير قانع بما بلغه من المراتب في أوج الكمال والمعرفة ، وأرشده وهداه إلى ما يستعين به على مرامه ليحصل له بالارتقاء العاجل رقيّ آجل لا يضمحل ، وجعل استعداده لقبول الخيرات كلها عاجلها وآجلها متوقفا على التلقين من السّفرة الموحى إليهم بأصول الفضائل. ولما توقف ذلك على مراقبة النفس في نفراتها وشرداتها وكانت تلك المراقبة تحتاج إلى تذكر المجازي بالخير وضده ، شرعت العبادة لتذكّر ذلك المجازي لأن عدم حضور ذاته واحتجابه بسبحات الجلال يسرّب نسيانه إلى النفوس ، كما أنه جعل نظامه في هذا العالم متصل الارتباط بين أفراده فأمرهم بلزوم آداب المعاشرة والمعاملة لئلا يفسد النظام ، ولمراقبة الدوام على ذلك أيضا شرعت العبادة لتذكّر به ، على أن في ذلك التذكر دوام الفكر في الخالق وشئونه وفي ذلك تخلق بالكمالات تدريجا فظهر أن العبادة هي
__________________
(١) كأنهم اصطلحوا على أن العبودية أبلغ من العبادة لما فيها من النسب لأن الأوصاف التي تلحقها ياء النسب يقصد منها المبالغة في الوصفية وذلك للجمع بين طريقي توصيف فإن صيغة الوصف تفيد التوصيف وصيغة النسب كذلك ولهذا كان قولهم أسحمي أبلغ من أسحم ، ولحياني أبلغ من لحيان فالعبودية مصدر من هذا النوع. واعلم أن كون الشكر يشتمل على حظ للمشكور قد تقرر في بحث الْحَمْدُ إذ بينا أن الحمد والشكر تزيين للعرض المحمود والمشكور لقول النابغة :
شكرت لك النعمى
البيت.