مناسبة لذلك المقام فدلنا على أنهم يعرّفون مخاطبيهم بأغراض لا قبل لتعرفها إلا إذا كان الاستعمال سواء في أصل اللغة ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى ، مثل زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا ، وكما قال خفاف بن ندبة (١) :
أقول له والرمح يأطر متنه |
|
تأمل خفافا إنني أنا ذلك (٢) |
وقد يؤتى بالقريب لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخطيم في «الحماسة» :
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة |
|
لنفسي إلا قد قضيت قضاءها |
فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة. وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صونا له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال ، فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في (الم) [البقرة : ١] كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهجر القول كقولهم : (افْتَراهُ) [يونس : ٣٨] وقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥]. ولا يرد على هذا قوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنعام : ٩٢] فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والاتعاظ بأوامره ونواهيه. ولعل صاحب «الكشاف» بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعدّ : (ذلِكَ الْكِتابُ) تنبيها على التعظيم أو الاعتبار ، فلله در صاحب «المفتاح» إذ لم يغفل ذلك فقال في مقتضيات تعريف المسند إليه بالإشارة : أو أن يقصد ببعده تعظيمه كما تقول في مقام التعظيم ذلك الفاضل وأولئك الفحول وكقوله عزّ وعلا : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) ذهابا إلى بعده درجة.
__________________
(١) خفاف بضم الخاء وتخفيف الفاء هو خفاف بن عمير وأمه ندبة أمة سوداء. وهي بفتح النون. وخفاف أحد فرسان العرب وشعرائهم ممن لقب بالغراب ، وأغربة العرب سودانهم وهم خمسة جاهليون ، وثمانية مسلمون ، فأما الجاهليون فهم : عنترة ، وخفاف ، وأبو عمير بن الحباب ، وسليك بن السّلكة ، وهشام بن عقبة بن أبي معيط ، فخفاف وهشام أدركا الإسلام وعدّا في الصحابة وشهد خفاف فتح مكة وأبلى البلاء الحسن. وأما الأغربة المسلمون فهم : تأبّط شرّا ، والشّنفرى ـ عمرو بن برّاقة ـ وعبد الله بن حازم ، وعمير بن أبي عمير ، وهمام بن مطرف ، ومنتشر بن وهب ، ومطر بن أبي أوفى ، وحاجز بحاء ثم جيم ثم زاي معجمة غير منسوب.
(٢) يأطر مضارع أطر كنصر وضرب ، بمعنى أحنى وكسر قال طرفة : «وأطر قسيّ فوق صلب مؤيّد».