فذكر (مِنَ النَّاسِ) ونحوه في مثل هذا وارد على أصل الإخبار ، وتقديم الخبر هنا للتشويق إلى استعلام المبتدأ وليس فيه إفادة تخصيص. وإذا علمت أن قوله (مِنَ النَّاسِ) مؤذن بأن المتحدث عنهم ستساق في شأنهم قصة مذمومة وحالة شنيعة إذ لا يستر ذكرهم إلا لأن حالهم من الشناعة بحيث يستحي المتكلم أن يصرح بموصوفها وفي ذلك من تحقير شأن النفاق ومذمته أمر كبير ، فوردت في شأنهم ثلاث عشرة آية نعي عليهم فيها خبثهم ومكرهم ، وسوء عواقبهم ، وسفه أحلامهم ، وجهالتهم ، وأردف ذلك كله بشتم واستهزاء وتمثيل حالهم في أشنع الصور وهم أحرياء بذلك فإن الخطة التي تدربوا فيها تجمع مذام كثيرة إذ النفاق يجمع الكذب ، والجبن ، والمكيدة ، وأفن الرأي ، والبله ، وسوء السلوك ، والطمع ، وإضاعة العمر ، وزوال الثقة ، وعداوة الأصحاب ، واضمحلال الفضيلة.
أما الكذب فظاهر ، وأما الجبن فلأنه لولاه لما دعاه داع إلى مخالفة ما يبطن ، وأما المكيدة فإنه يحمل على اتقاء الاطلاع عليه بكل ما يمكن ، وأما أفن الرأي فلأن ذلك دليل على ضعف في العقل إذ لا داعي إلى ذلك ، وأما البله فللجهل بأن ذلك لا يطول الاغترار به ، وأما سوء السلوك فلأنّ طبع النفاق إخفاء الصفات المذمومة ، والصفات المذمومة ، إذا لم تظهر لا يمكن للمربي ولا للصديق ولا لعموم الناس تغييرها على صاحبها فتبقى كما هي وتزيد تمكنا بطول الزمان حتى تصير ملكة يتعذر زوالها ، وأما الطمع فلأن غالب أحوال النفاق يكون للرغبة في حصول النفع ، وأما إضاعة العمر فلأن العقل ينصرف إلى ترويج أحوال النفاق وما يلزم إجراؤه مع الناس ونصب الحيل لإخفاء ذلك وفي ذلك ما يصرف الذهن عن الشغل بما يجدي ، وأما زوال الثقة فلأن الناس إن اطلعوا عليه ساء ظنهم فلا يثقون بشيء يقع منه ولو حقا ، وأما عداوة الأصحاب فكذلك لأنه إذا علم أن ذلك خلق لصاحبه خشي غدره فحذره فأدى ذلك إلى عداوته ، وأما اضمحلال الفضيلة فنتيجة ذلك كله.
وقد أشار قوله تعالى : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) إلى الكذب ، وقوله : (يُخادِعُونَ) [البقرة : ٩] إلى المكيدة والجبن ، وقوله : (ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) [البقرة : ٩] إلى أفن الرأي ، وقوله : (وَما يَشْعُرُونَ) [البقرة : ٩] إلى البله ، وقوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [البقرة : ١٠] إلى سوء السلوك ، وقوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [البقرة : ١٠] إلى دوام ذلك وتزايده مع الزمان ، وقوله : (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة : ١١] إلى إضاعة العمر في غير المقصود ، وقوله :