وقد وجه صاحب «الكشاف» العدول عن التأكيد في قولهم : (آمَنَّا) والتأكيد في قولهم (إِنَّا مَعَكُمْ) بأن مخاطبتهم المؤمنين انتفى عنها ما يقتضي تأكيد الخبر لأن المخبرين لم يتعلق غرضهم بأكثر من ادعاء حدوث إيمانهم لأن نفوسهم لا تساعدهم على أن يتلفظوا بأقوى من ذلك ولأنهم علموا أن ذلك لا يروج على المسلمين أي فاقتصروا على اللازم من الكلام فإن عدم التأكيد في الكلام قد يكون لعدم اعتناء المتكلم بتحقيقه ، ولعلمه أن تأكيده عبث لعدم رواجه عند السامع ، وهذه نكتة غريبة مرجعها قطع النظر عن إنكار السامع والإعراض عن الاهتمام بالخبر. وأما مخاطبتهم شياطينهم فإنما أتوا بالخبر فيها مؤكدا لإفادة اهتمامهم بذلك الخبر وصدق رغبتهم في النطق به ولعلمهم أن ذلك رائج عند المخاطبين فإن التأكيد قد يكون لاعتناء المتكلم بالخبر ورواجه عند السامع أي فهو تأكيد للاهتمام لا لرد الإنكار.
وقولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) قصروا أنفسهم على الاستهزاء قصرا إضافيا للقلب أي مؤمنون مخلصون ، وجملة : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) تقرير لقوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) لأنهم إذا كانوا معهم كان ما أظهروه من مفارقة دينهم استهزاء أو نحوه فأما أن تكون الجملة الثانية استئنافا واقعة في جواب سؤال مقدر كأن سائلا يعجب من دعوى بقائهم على دينهم لما أتقنوه من مظاهر النفاق في معاملة المسلمين ، وينكر أن يكونوا باقين على دينهم ويسأل كيف أمكن الجمع بين البقاء على الدين وإظهار المودة للمؤمنين فأجابوا (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ، وبه يتضح وجه الإتيان بأداة القصر لأن المنكر السائل يعتقد كذبهم في قولهم (إِنَّا مَعَكُمْ) ويدعي عكس ذلك ، وإما أن تكون الجملة بدلا من (إِنَّا مَعَكُمْ) بدل اشتمال لأن من دام على الكفر وتغالى فيه ـ وهو مقتضى (مَعَكُمْ) أي في تصلبكم ـ فقد حقر الإسلام وأهله واستخف بهم ، والوجه الأول أولى الوجوه لأنه يجمع ما تفيده البدلية والتأكيد من تقرير مضمون الجملة الأولى مع ما فيه من الإشارة إلى رد التحير الذي ينشأ عنه السؤال وهذا يفوت على تقديري التأكيد والبدلية.
والاستهزاء السخرية يقال : هزأ به واستهزأ به فالسين والتاء للتأكيد مثل استجاب ، أي عامله فعلا أو قولا يحصل به احتقاره أو والتطرية به ، سواء أشعره بذلك أم أخفاه عنه. والباء فيه للسببية قيل : لا يتعدى بغير الباء وقيل : يتعدى بمن ، وهو مرادف سخر في المعنى دون المادة كما سيأتي في سورة الأنعام.
وقرأ أبو جعفر (مستهزون) بدون همزة وبضم الزاي تخفيفا وهو لغة فصيحة في