الإسناد المجازي لما صح أن ينفى عن الشيء ما يعلم كل أحد أنه ليس من صفاته لأنه يصير من باب الإخبار بالمعلوم ضرورة ، فلا تظنن أن النفي في مثل هذا حقيقة فتتركه ، إن انتفاء الربح عن التجارة واقع ثابت لأنها لا توصف بالربح وهكذا تقول في نحو قول جرير :
«ونمت وما ليل المطي بنائم»
بخلاف قولك ما ليله بطويل ، بل النفي هنا مجاز عقلي لأنه فرع عن اعتبار وصف التجارة بأنها إلى الخسر ووصفها بالربح مجاز وقاعدة ذلك أن تنظر في النفي إلى المنفي لو كان مثبتا فإن وجدت إثباته مجازا عقليا فاجعل نفيه كذلك وإلا فاجعل نفيه حقيقة لأنه لا ينفى إلا ما يصح أن يثبت. وهذه هي الطريقة التي انفصل عليها المحقق التفتازانيّ في «المطول» ، وعدل عنها في «حواشي الكشاف» وهي أمثل مما عدل إليه.
وقد أفاد قوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) ترشيحا للاستعارة في (اشْتَرَوُا) فإن مرجع الترشيح إلى أن يقفى المجاز بما يناسبه سواء كان ذلك الترشيح حقيقة بحيث لا يستفاد منه إلا تقوية المجاز كما تقول له يد طولى أو هو أسد دامي البراثن أم كان التشريح متميزا به أو مستعارا لمعنى آخر هو من ملائمات المجاز الأول سواء حسن مع ذلك استقلاله بالاستعارة كما في هذه الآية فإن نفي الربح ترشح به (اشْتَرَوُا). ومثله قول الشاعر أنشده ابن الأعرابي كما في «أساس البلاغة» للزمخشري ولم يعزه :
ولما رأيت النّسر عزّ ابن داية |
|
وعشّش في وكريه جاش له صدري (١) |
فإنه لما شبه الشيب بالنسر والشعر الأسود بالغراب صح تشبيه حلول الشيب في محلي السواد وهما الفودان بتعشيش الطائر في موضع طائر آخر ؛ أم لم يحسن إلا مع المجاز الأول كقول بعض فتّاك العرب في أمه (أنشده في «الكشاف» ولم أقف على تعيين قائله) :
وما أمّ الرّدين وإن أدلّت |
|
بعالمة بأخلاق الكرام |
__________________
(١) عز : غلب ، وابن داية من أسماء الغراب ، سمي ابن داية لسواده ، لأن الداية : الحاضنة ، وكانت حواضن أبناء العرب والمشتغلات في شئونهم في بيوت أكابرهم هن الإماء السود ، فيطلق على الصبيان من أبناء الإماء ابن داية تأنيسا له لئلا يقال العبد أو الوصيف.