فالظاهر أن إطلاق المثل على القول البديع السائر بين الناس الصادر من قائله في حالة عجيبة هو إطلاق مرتب على إطلاق اسم المثل على الحال العجيبة ، وأنهم لا يكادون يضربون مثلا ولا يرونه أهلا للتسيير وجديرا بالتداول إلا قولا فيه بلاغة وخصوصية في فصاحة لفظ وإيجازه ووفرة معنى ، فالمثل قول عزيز غريب ليس من متعارف الأقوال العامة بل هو من أقوال فحول البلاغة فلذلك وصف بالغرابة (١) أي العزة مثل قولهم : «الصيف ضيعت اللبن» وقولهم : «لا يطاع لقصير أمر» وستعرف وجه ذلك.
ولما شاع إطلاق لفظ المثل (بالتحريك) على الحالة العجيبة الشأن جعل البلغاء إذا أرادوا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة أعني وصفين منتزعين من متعدد أتوا في جانب المشبه والمشبه به معا أو في جانب أحدهما بلفظ المثل وأدخلوا الكاف ونحوها من حروف التشبيه على المشبه به منهما ولا يطلقون ذلك على التشبيه البسيط فلا يقولون مثل فلان كمثل الأسد وقلما شبهوا حالا مركبة بحال مركبة مقتصرين على الكاف كقوله تعالى : (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ) [الرعد : ١٤] بل يذكرون لفظ المثل في الجانبين غالبا نحو الآية هنا ، وربما ذكروا لفظ المثل في أحد الجانبين كقوله : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) [يونس : ٢٤] الآية وذلك ليتبادر للسامع أن المقصود تشبيه حالة بحالة لا ذات بذات ولا حالة بذات فصار لفظ المثل في تشبيه الهيئة منسيا من أصل وضعه ومستعملا في معنى الحالة فلذلك لا يستغنون عن الإتيان بحرف التشبيه حتى مع وجود لفظ المثل فصارت الكاف في قوله تعالى : (كَمَثَلِ) دالة على التشبيه وليست زائدة كما زعمه الرضى في «شرح الحاجبية» ، وتبعه عبد الحكيم عند قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩] وقوفا مع أصل الوضع وإغضاء عن الاستعمال ألا ترى كيف استغنى عن إعادة لفظ المثل عند العطف في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ) ولم يستغن عن الكاف.
ومن أجل إطلاق لفظ المثل اقتبس علماء البيان مصطلحهم في تسمية التشبيه المركب بتشبيه التمثيل وتسمية استعمال المركب الدال على هيئة منتزعة من متعدد في غير ما وضع له مجموعه بعلاقة المشابهة استعارة تمثيلية وقد تقدم الإلمام بشيء منه عند قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].
__________________
(١) أشرت بتفسير معنى الغرابة لدفع الحيرة الواقعة في المراد من قول صاحب «الكشاف» : «إلا قولا فيه غرابة إلخ» فقد فسرها الطيبي بغموض الكلام وكونه نادرا معنى ولفظا وهذا لا يطرد وقد سكت عنه الشارحان : السعد والسيد ، وقد حام حوله الخفاجي.