إلى مصالحهم.
وبعد فهذا الاستئناس وجبر الخواطر يزداد به المحسنون إحسانا وينكف به المجرمون عن سوء صنعهم فيأخذ كل فريق من الذين ذكروا فيما سلف حظّه منه. فالمقصود بالنداء من قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) الإقبال على موعظة نبذ الشرك وذلك هو غالب اصطلاح القرآن في الخطاب بيا أيها الناس ، وقرينة ذلك هنا قوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٢] وافتتح الخطاب بالنداء تنويها به.
و (يا) حرف للنداء وهو أكثر حروف النداء استعمالا فهو أصل حروف النداء ولذلك لا يقدر غيره عند حذف حرف النداء ولكونه أصلا كان مشتركا لنداء القريب والبعيد كما في «القاموس». قال الرضي في «شرح الكافية» : إن استعمال يا في القريب والبعيد على السواء ودعوى المجاز في أحدهما أو التأويل خلاف الأصل ، وهو يريد بذلك الرد على الزمخشري إذ قال في «الكشاف» : «ويا حرف وضع في أصله لنداء البعيد ثم استعمل في مناداة من سها أو غفل وإن قرب تنزيلا له منزلة من بعد» وكذلك فعل في كتاب «المفصل».
و (أيّ) في الأصل نكرة تدل على فرد من جنس اسم يتصل بها بطريق الإضافة ، نحو أيّ رجل أو بطريق الإبدال نحو يا أيها الرجل ، ومنه ما في الاختصاص كقولك لجليسك أنا كفيت مهمك أيها الجالس عندك وقد ينادون المنادى باسم جنسه أو بوصفه لأنه طريق معرفته أو لأنه أشمل لإحضاره كما هنا فربما يؤتى بالمنادى حينئذ نكرة مقصودة أو غير مقصودة ، وربما يأتون باسم الجنس أو الوصف معرفا باللام الجنسية إشارة إلى تطرق التعريف إليه على الجملة تفننا فجرى استعمالهم أن يأتوا حينئذ مع اللام باسم إشارة إغراقا في تعريفه (١) ويفصلوا بين حرف النداء والاسم المنادى حينئذ بكلمة أيّ وهو تركيب غير جار على قياس اللغة ولعله من بقايا استعمال عتيق.
وقد اختصروا اسم الإشارة فأبقوا (ها) التنبيهية وحذفوا اسم الإشارة ، فأصل يا أيها الناس يا أي هؤلاء وقد صرحوا بذلك في بعض كلامهم كقول الشاعر الذي لا نعرفه :
__________________
(١) علله كثير من النحويين بأنه لكراهية اجتماع حرفي تعريف ، ورده الرضي بأنه لا يستنكر اجتماع حرفين في أحدهما من الفائدة ما في الآخر وزيادة كما في لقد ، وقالوا يا هذا ، ويا أنت. والذي يختار في تعليله أنه كراهية اجتماع أداتي تعريف وهما حرف النداء وأل المعرفة.