والعبادة في الأصل التذلل والخضوع وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] ولما كان التذلل والخضوع إنما يحصل عن صدق اليقين كان الإيمان بالله وتوحيده بالإلهية مبدأ العبادة لأن من أشرك مع المستحق ما ليس بمستحق فقد تباعد عن التذلل والخضوع له. فالمخاطب بالأمر بالعبادة المشركون من العرب والدهريون منهم وأهل الكتاب والمؤمنون كل بما عليه من واجب العبادة من إثبات الخالق ومن توحيده ، ومن الإيمان بالرسول ، والإسلام للدين والامتثال لما شرعه إلى ما وراء ذلك كله حتى منتهى العبادة ولو بالدوام والمواظبة بالنسبة إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين معه فإنهم مشمولون للخطاب على ما تقرر في الأصول ، فالمأمورية هو القدر المشترك حتى لا يلزم استعمال المشترك في معانيه عند من يأبى ذلك الاستعمال وإن كنا لا نأباه إذا صلح له السياق بدليل تفريع قوله بعد ذلك : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢] على قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) الآية. فليس في هذه الآية حجة للقول بخطاب الكفار بفروع الشريعة لأن الأمر بالعبادة بالنسبة إليهم إنما يعنى به الإيمان والتوحيد وتصديق الرسول ، وخطابهم بذلك متفق عليه وهي مسألة سمجة.
وقد مضى القول في معنى الرب عند قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) في سورة الفاتحة [٢]. ووجه العدول عن غير طريق الإضافة من طرق التعريف نحو العلمية إذ لم يقل اعبدوا الله ، لأن في الإتيان بلفظ الرب إيذانا بأحقية الأمر بعبادته فإن المدبر لأمور الخلق هو جدير بالعبادة لأن فيها معنى الشكر وإظهار الاحتياج.
وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإفراد والإضافة إلى جميع الناس إلا الله ، فإن المشركين وإن أشركوا مع الله آلهة إلا أن بعض القبائل كان لها مزيد اختصاص ببعض الأصنام ، كما كان لثقيف مزيد اختصاص باللات كما تقدم في سورة الفاتحة وتبعهم الأوس والخزرج كما سيأتي في تفسير قوله تعالى : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) [البقرة : ١٥٨] في هذه السورة فالعدول إلى الإضافة هنا لأنها أخصر طريق في الدلالة على هذا المقصد فهي أخصر من الموصول فلو أريد غير الله لقيل اعبدوا أربابكم فلا جرم كان قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) صريحا في أنه دعوة إلى توحيد الله ولذلك فقوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) زيادة بيان لموجب العبادة ، أو زيادة بيان لما اقتضته الإضافة من تضمن معنى الاختصاص بأحقية العبادة.
وقوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يفيد تذكير الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم