عقبه : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥] فالفاعل والمفعول متغايران.
ومن الناس من حمل الأمر بقتل النفس هنا على معنى القتل المجازي وهو التذليل والقهر على نحو قول امرئ القيس : «في أعشار قلب مقتّل» وقوله : خمر مقتلة أو مقتولة ، أي مذللة سورتها بالماء. قال بجير بن زهير :
إن التي ناولتني فرددتها |
|
قتلت قتلت فهاتها لم تقتل (١) |
وفيه بعد عن اللفظ بل مخالفة لغرض الامتنان ، لأن تذليل النفس وقهرها شريعة غير منسوخة.
والظلم هنا الجناية والمعصية على حد قوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].
والفاء في قوله : (فَتُوبُوا) فاء التسبب لأن الظلم سبب في الأمر بالتوبة فالفاء لتفريع الأمر على الخبر وليست هنا عاطفة عند الزمخشري وابن الحاجب إذ ليس بين الخبر والإنشاء ترتب في الوجود ، ومن النحاة من لا يرى الفاء تخرج عن العطف وهو الجاري على عبارات الجمهور مثل صاحب «مغني اللبيب» فيجعل ذلك عطف إنشاء على خبر ولا ضير في ذلك.
وذكر التوبة تقدم في قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٣٧].
والفاء في قوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ظاهرة في أن قتلهم أنفسهم بيان للتوبة المشروعة له فتكون الفاء للترتيب الذكري وهو عطف مفصل على مجمل كقوله تعالى : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] كما في «مغني اللبيب» وهو يقتضي أنها تفيد الترتيب لا التعقيب. وأما صاحب «الكشاف» فقد جوز فيه وجهين أحدهما تأويل الفعل المعطوف عليه بالعزم على الفعل فيكون ما بعده مرتبا عليه ومعقبا وهذا الوجه لم يذكره صاحب «المغني» وهذا لا يتأتى في قوله تعالى : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا) ، وثانيهما جعل التوبة المطلوبة شاملة لأقوال وأعمال آخرها قتلهم أنفسهم فتكون
__________________
(١) ومن معنى القتل في التذليل جاء معنى مجازي آخر وهو إطلاق القتل على إتقان العمل لأن في الإتقان تذليلا للمصنوع من ذلك قولهم قتل اللسان علما ، وفرى الدهر خبرة وقوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) [النساء : ١٥٧] على وجه.