فالوجه أن قوله : (وَما أُنْزِلَ) عطف على (مُلْكِ سُلَيْمانَ) فهو معمول لتتلوا الذي هو بمعنى تكذب فيكون المراد عدم صحة هذا الخبر أي ما تكذبه الشياطين على ما أنزل على الملكين ببابل ، أي ينسبون بعض السحر إلى ما أنزل ببابل. قال الفخر وهو اختيار أبي مسلم وأنكر أبو مسلم أن يكون السحر نازلا على الملكين إذ لا يجوز أمر الله به وكيف يتولى الملائكة تعليمه مع أنه كفر أو فسق.
وقيل : (ما) نافية معطوفة على (ما كفر سليمان) أي وما كفر سليمان بوضع السحر كما يزعم الذين وضعوه ، ولا أنزل السحر على الملكين ببابل. وتعريف الملكين تعريف الجنس أو هو تعريف العهد بأن يكون الملكان معهودين لدى العارفين بقصة ظهور السحر ، وقد قيل إن (هاروت وماروت) بدل من (الشياطين) وإن المراد بالشياطين شيطانان وضعا السحر للناس هما هاروت وماروت ، على أنه من إطلاق الجمع على المثنى كقوله : (قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] وهذا تأويل خطأ إذ يصير قوله : (عَلَى الْمَلَكَيْنِ) كلاما حشوا.
وعلى ظاهر هذه الآية إشكال من أربعة وجوه : أحدها كون السحر منزلا إن حمل الإنزال على المعروف منه وهو الإنزال من الله ، الثاني كون المباشر لذلك ملكين من الملائكة على القراءة المتواترة ، الثالث كيف يجمع الملكان بين قولهما (نَحْنُ فِتْنَةٌ) وقولهما (فَلا تَكْفُرْ) فكيف يجتمع قصد الفتنة مع التحذير من الوقوع فيها الرابع كيف حصرا حالهما في الاتصاف بأنهما فتنة فما هي الحكمة في تصديهما لذلك لأنهما إن كانا ملكين فالإشكال ظاهر وإن كانا ملكين بكسر اللام فهما قد علما مضرة الكفر بدليل نهيهما عنه وعلما معنى الفتنة بدليل قولهما (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) فلما ذا تورطا في هذه الحالة؟
ودفع هذا الإشكال برمته أن الإنزال هو الإيصال وهو إذا تعدى بعلى دل على إيصال من علو واشتهر ذلك في إيصال العلم من وحي أو إلهام أو نحوهما ، فالإنزال هنا بمعنى الإلهام وبمعنى الإيداع في العقل أو في الخلقة بأن يكون الملكان قد برعا في هذا السحر وابتكرا منه أساليب لم يسبق لهما تلقيها من معلم شأن العلامة المتصرف في علمه المبتكر لوجوه المسائل وعللها وتصاريفها وفروعها.
والظاهر عندي أن ليس المراد بالإنزال إنزال السحر إذ السحر أمر موجود من قبل ولكنه إنزال الأمر للملكين أو إنزال الوحي أو الإلهام للملكين بأن يتصديا لبث خفايا السحر بين المتعلمين ليبطل انفراد شرذمة بعلمه فيندفع الوجهان الأول والثاني.
ثم إن الحكمة من تعميم تعليمه أن السحرة في بابل كانوا اتخذوا السحر وسيلة