وقد قدمنا أن الله تعالى رد عليهم عذرهم وفضحهم بأنهم ليسوا متمسكين بشرعهم حتى يتصلبوا فيه وذلك من قوله : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) [البقرة : ٩١] وقوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) [البقرة : ٩٤] إلخ وبأنهم لا داعي لهم غير الحسد بقوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إلى قوله : (ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [البقرة : ١٠٥] المنبئ أن العلة هي الحسد ، فلما بين الرد عليهم في ذلك كله أراد نقض تلك السفسطة أو الشبهة التي راموا ترويجها على الناس بمنع النسخ. والمقصد الأصلي من هذا هو تعليم المسلمين أصلا من أصول الشرائع وهو أصل النسخ الذي يطرأ على شريعة بشريعة بعدها ويطرأ على بعض أحكام شريعة بأحكام تبطلها من تلك الشريعة. ولكون هذا هو المقصد الأصلي عدل عن مخاطبة اليهود بالرد عليهم. ووجه الخطاب إلى المسلمين كما دل عليه قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ) وعطفه عليه بقوله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) [البقرة : ١٠٨] ولقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) ولم يقل من شريعة. وفي هذا إعراض عن مخاطبة اليهود لأن تعليم المسلمين أهم وذلك يستتبع الرد على اليهود بطريق المساواة لأنه إذا ظهرت حكمة تغيير بعض الأحكام لمصلحة تظهر حكمة تغيير بعض الشرائع.
وقد ذكر بعض المفسرين لهاته الآية سبب نزول ، ففي «الكشاف» و«المعالم» : نزلت لما قال اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ، وفي «تفسير القرطبي» أن اليهود طعنوا في تغيير القبلة وقالوا إن محمدا يأمر أصحابه بشيء وينهاهم عنه فما كان هذا القرآن إلا من جهته ولذلك يخالف بعضه بعضا.
وقرأ الجمهور (ننسخ) بفتح النون الأولى وفتح السين وهو أصل مضارع نسخ ، وقرأه ابن عامر بضم النون الأولى وكسر السين على أنه مضارع أنسخ مهموزا بهمزة التعدية أي نأمر بنسخ آية.
و (ما) شرطية وأصلها الموصولة أشربت معنى الشرط فلذلك كانت اسما للشرط يستحق إعراب المفاعيل وتبين بما يفسر إبهامها وهي أيضا توجب إبهاما في أزمان الربط لأن الربط وهو التعليق لما نيط بمبهم صار مبهما فلا تدل على زمن معين من أزمان تعليق الجواب على الشرط وربطه به.
و (من آية) بيان لما. والآية في الأصل الدليل والشاهد على أمر. قال الحرث بن حلزة :
من لنا عنده من الخير آيا |
|
ت ثلاث في كلّهن القضاء |