ولا يطلق النسخ على الزوال بدون إزالة فلا تقول نسخ الليل النهار لأن الليل ليس بأمر وجودي بل هو الظلمة الأصلية الحاصلة من انعدام الجرم المنير.
والمراد من النسخ هنا الإزالة وإثبات العوض بدليل قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) وهو المعروف عند الأصولين بأنه رفع الحكم الشرعي بخطاب فخرج التشريع المستأنف إذ ليس برفع ، وخرج بقولنا الحكم الشرعي رفع البراءة الأصلية بالشرع المستأنف. إذ البراءة الأصلية ليست حكما شرعيا بل هي البقاء على عدم التكليف الذي كان الناس عليه قبل مجيء الشرع بحيث إن الشريعة لا تتعرض للتنصيص على إباحة المباحات إلا في مظنة اعتقاد تحريمها أو في موضع حصر المحرمات أو الواجبات.
فالأول نحو قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٩٨] في التجارة في الحج حيث ظن المسلمون تحريم التجارة في عشر ذي الحجة كما كانت عليه الجاهلية بعد الانصراف من ذي المجاز (١) كما سيأتي.
ومثال الثاني قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] بعد ذكر النساء المحرمات وقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [البقرة : ١٨٧] لحصر وجوب الإمساك في خصوص زمن النهار.
وفهم من قولهم في التعريف رفع الحكم أن ذلك الحكم كان ثابتا لو لا رفعه وقد صرح به بعضهم ولذلك اخترنا زيادة قيد في التعريف وهو رفع الحكم الشرعي المعلوم دوامه بخطاب يرفعه ليخرج عن تعريف النسخ رفع الحكم الشرعي المغيّى بغاية عند انتهاء غايته ورفع الحكم المستفاد من أمر لا دليل فيه على التكرار.
وحيث تبينت حكمة نسخ الآيات علم منه حكمة نسخ الشرائع بعضها ببعض وهو الذي أنكروه وأنكروا كون الإسلام قد نسخ التوراة وزعموا أن دوام التوراة مانع من
__________________
(١) ذلك أن العرب كانوا إذا انصرفوا من سوق ذي المجاز ليلة التروية يحرمون البيع إلى انقضاء الحج قال النابغة يذكر ناقته :
كادت تساقطني رحلي وميثرتي |
|
بذي المجاز ولم تحسس به نغما |
من صوت حرمية قالت وقد ظعنوا |
|
هل في مخيمكم من يشتري أدما |
قالت لها وهي تسعى تحت لبتها |
|
لا تحطمنك إن البيع قد زرما |