والظهور أم كانت متفاوتة بعضها أظهر من بعض ولو أن تبلغ حد التأويل وهو حمل اللفظ على المعنى المحتمل المرجوح. أما إذا تساوى المعنيان فالأمر أظهر ، مثل قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) [النساء : ١٥٧] أي ما تيقنوا قتله ولكن توهموه ، أو ما أيقن النصارى الذين اختلفوا في قتل عيسى علم ذلك يقينا بل فهموه خطأ ، ومثل قوله : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) [يوسف : ٤٢] ففي كل من كلمة ذكر وربه معنيان ، ومثل قوله : (قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) [يوسف : ٢٣] ففي لفظ رب معنيان. وقد تكثر المعاني بإنزال لفظ الآية على وجهين أو أكثر تكثيرا للمعاني مع إيجاز اللفظ وهذا من وجوه الإعجاز. ومثاله قوله تعالى : (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) [التوبة : ١١٤] بالمثناة التحتية وقرأ الحسن البصري (أباه) بالباء الموحدة ، فنشأ احتمال فيمن هو الوعد. ولما كان القرآن نازلا من المحيط علمه بكل شيء ، كان ما تسمح تراكيبه الجارية على فصيح استعمال الكلام البليغ باحتماله من المعاني المألوفة للعرب في أمثال تلك التراكيب ، مظنونا بأنه مراد لمنزله ، ما لم يمنع من ذلك مانع صريح أو غالب من دلالة شرعية أو لغوية أو توقيفية. وقد جعل الله القرآن كتاب الأمة كلها وفيه هديها ، ودعاهم إلى تدبره وبذل الجهد في استخراج معانيه في غير ما آية كقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] وقوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] وقوله : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت : ٤٩] وغير ذلك. على أن القرآن هو الحجة العامة بين علماء الإسلام لا يختلفون في كونه حجّة شريعتهم وإن اختلفوا في حجية ما عداه من الأخبار المروية عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لشدة الخلاف في شروط تصحيح الخبر ، ولتفاوتهم في مقدار ما يبلغهم من الأخبار مع تفرق العصور والأقطار ، فلا مرجع لهم عند الاختلاف يرجعون إليه أقوى من القرآن ودلالته.
ويدل لتأصيلنا هذا ما وقع إلينا من تفسيرات مروية عن النبي صلىاللهعليهوسلم لآيات ، فنرى منها ما نوقن بأنه ليس هو المعنى الأسبق من التركيب ؛ ولكنا بالتأمل نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما أراد بتفسيره إلا إيقاظ الأذهان إلى أخذ أقصى المعاني من ألفاظ القرآن ، مثال ذلك ما رواه أبو سعيد بن المعلّى قال : دعاني رسول الله وأنا في الصلاة فلم أجبه فلما فرغت أقبلت إليه فقال : «ما منعك أن تجيبني؟ فقلت : يا رسول الله كنت أصلي ، فقال : ألم يقل الله تعالى (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) [الأنفال : ٢٤]؟» ، فلا شك أن المعنى المسوقة فيه الآية هو الاستجابة بمعنى الامتثال ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ