ثم قال : والأقرب أن الألم ليس هو نفس إدراك المنافي ولا هو كاف في حصوله ، لأن التجارب الطبية قد شهدت له (١) بأن سوء المزاج الرطب غير مؤلم مع أن هناك إدراك أمر غير طبيعي ، وسنتكلم على ذلك ، وزعم محمد ابن زكريا أن اللذة عبارة عن التبدل والخروج عن حالة غير طبيعية (٢) إلى حالة طبيعية ، وبه صرح جالينوس (٣) في مواضع من كلامه ، وهو معنى الخلاص عن الألم ، وذلك كالأكل للجوع ، والجماع لدغدغة المنى أوعيته.
وأبطله ابن سينا وغيره بأنه قد تحصل اللذة من غير سابقة ألم ، وحالة غير طبيعية كما في مصادفة حال ومطالعة جمال من غير طلب وشوق لا على التفصيل ولا على الإجمال بأن لم يخطر ذلك بباله قط (٤) لا جزئيا ولا كليا ، وكذا في إدراك الذائقة الحلاوة أول مرة ، وقد يحصل ذلك التبدل من غير لذة كما في حصول الصحة على التدريج وفي ورود المستلذات من الطعوم والروائح والأصوات وغيرها على من له غاية الشوق إلى ذلك ، وقد عرض له شاغل عن الشعور والإدراك قالوا : وسبب السهو أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات ، فان الألم واللذة لا يتمان إلا بإدراك ، والإدراك الحسي خصوصا اللمسي لا يحصل إلا بانفعال عن العند (٥) ، ولذلك متى استقرت الكيفية الموجبة لذلك لم يحصل الانفعال (٦) فلم يحصل الإدراك بل تحصل لذة ولا ألم.
__________________
(١) في (أ) بزيادة لفظ (له).
(٢) في (أ) بزيادة (طبيعية).
(٣) سبق أن ترجم له في هذا الجزء.
(٤) في (أ) بزيادة لفظ (قط).
(٥) في (ب) الضد بدلا من (العند).
(٦) انفعل مطاوع فعل ، تقول : فعلت الشيء فانفعل ، كقولك : كسرته فانكسر وقد أطلق أولا على إحدى مقولات أرسطو (أن ينفعل) وهي ضد مقولة (أن يفعل).
قال ابن سينا : الانفعال : هو نسبة الجوهر إلى حالة فيه بهذه الصفة كالتقطع والتسخن.
ر (راجع النجاة ص ١٢٨).
وقال الغزالي : هو نسبة الجوهر المتغير إلى الجوهر المغير فإن كل منفعل فمن فاعل وكل متسخن ومتبرد فمن مسخن ومبرد بحكم العادة المطردة عند أهل الحق ، وبحكم ضرورة الجلسة عند المعتزلة والفلاسفة. والانفعال على الجملة تغير والتغير قد يكون من كيفية إلى كيفية.