ونحن لا نعلم ما أراد بالتبديل تبديل الأحكام أو تبديل الرسم والنظم ، إنما نعلم ذلك بالسماع (١).
ثم أخبر أنه لا يقول ولا يتبع إلا ما يوحى إليه ويؤمر به بقوله : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ).
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) إن تركت تبليغ ما أمرت بالتبليغ إليكم ، وهكذا كل من عرف ربه خافه إن عصاه وخالف أمره ونهيه ، ومن لم يعرف ربه لم يخفه إن عصاه وخالف.
وقوله : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) : سؤالهم سؤال تعنت واستهزاء ؛ لأنه لا منفعة لهم لو أتى بغيره وبدله سوى ما في هذا ولو جاز لهم هذا السؤال جاز ذلك في كل ما أتى به واحدا بعد واحد ، فذلك مما لا ينقطع أبدا ولا غاية ولا نهاية فهو سؤال تعنت واستهزاء.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) : هو صلة ما تقدم من قوله حيث قالوا : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) قد ذكرنا أن هذا يحتمل وجهين :
__________________
(١) فإن قيل : إذا بدل هذا القرآن فقد أتى بغير هذا القرآن ، وإذا كان كذلك ، كان كل واحد من هذين الأمرين هو نفس الآخر ، ومما يدل على أن كل واحد منهما عين الآخر : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ اقتصر على الجواب بنفي أحدهما ، فقال : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) ؛ فيكون الترديد فيه والتخيير باطلا.
فالجواب : أن أحد الأمرين غير الآخر ، فالإتيان بكتاب آخر ، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه ، يكون إتيانا بقرآن آخر ، وأما إذا أتى بهذا القرآن ، إلا أنه وضع مكان ذم بعض الأشياء مدحها ، ومكان آية رحمة آية عذاب ، كان هذا تبديلا ، أو نقول : الإتيان بقرآن غير هذا ، هو أن يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب ، والتبديل : هو أن يغير هذا الكتاب ، مع بقاء هذا الكتاب.
وقوله : إنه اكتفى في الجواب بنفي أحد القسمين ، قلنا : إن الجواب المذكور على أحد القسمين ، هو عين الجواب عن القسم الثاني ، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بين أنه لا يجوز أن يبدله من تلقاء نفسه ؛ لأنه وارد من الله ـ تعالى ـ ولا يقدر على مثله ، كما لا يقدر على مثله سائر العرب ؛ لأن ذلك كان متقررا عندهم لما تحداهم بالإتيان بمثله.
واعلم أن التماسهم لهذا يحتمل أن يكون سخرية واستهزاء ، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل الجد ، ويكون غرضهم : أنه إن فعل ذلك ، علموا كذبه في قوله : إن هذا القرآن منزل عليه من عند الله ، ويحتمل أن يكون التماسهم كتابا آخر ؛ لأن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم ، والطعن في طرائقهم ، فطلبوا كتابا آخر ليس فيه ذلك ، أو يكونوا قد جوزوا كون القرآن من عند الله ، لكنهم التمسوا منه نسخ هذا القرآن ، وتبديله بقرآن آخر.
ينظر اللباب (١٠ / ٢٨٢).