ومعنى قوله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي).
أى : عصم ربي. والله أعلم.
إنه لما قال ذلك ؛ (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ؛ لما عصمني الله عن ذلك ، ولو لم يكن عصمنى لكنت أخونه (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي : [ما](١) عصم ربي ؛ لأن النفس جبلت وطبعت على الميل إلى الشهوات واللذات ، والهوى فيها والرغبة والتوقي عن المكروهات والشدائد ؛ ألا ترى أنه قال : (فَأَمَّا مَنْ طَغى. وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٣٧ ـ ٤١] أثبت للنفس الهوى وإيثار الحياة الدنيا وشهواتها ، هذا يدل أن قوله : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) هو محبة الاختيار والإيثار في الدين لا ما تختار النفس وتؤثر ، النفس أبدا تختار وتؤثر ما هو ألذّ وأشهى ، وتنفر عن الشدائد والمكروهات ، على هذا طبعت وجبلت.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي : [لا يجعل](٢) فعل الكيد والخيانة هدى ورشدا ، إنما يجعل فعل الكيد والخيانة ضلالا وغواية.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) [أي : أجعله لنفسي خالصا لحوائجي وأن يكون قوله : (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي)](٣) :
أصدر لرأيه وأطيع أمره ، في هذا يقع استخلاصه إياه ؛ ولذلك قال : (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ ...) الآية لا أن يجعله لحاجة نفسه خالصا دون الناس لا يشرك غيره فيه ؛ دليله ما ذكر في حرف حفصة إنك اليوم لدينا مطاع أمين.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ).
ولم يذكر فيه أنه أتى به ، ولكن قال : فلما كلمه ؛ فهذا يدل أنه قد أتى به وإن لم يذكر أنه أتى به ؛ حيث قال : (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) قيل : المكين : الوجيه ، وقيل : المكين : الأمين المرضي عندنا والأمين على ما استأمناك.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ).
سأل هذا لما علم أنه ليس في وسعهم القيام بإصلاح ذلك الطعام ، وعلم أنه لو ولي غيره الخزائن لم يعرف إنزال الناس منازلهم ؛ في تقديم من يجب تقديمه ، والقيام بحاجة الأحق من غيره. وعلم أنه إليه يرجع ، ويقع حوائج أكثر الناس ، وبه قوام أبدانهم ؛ فسأله
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في أ : لا يحتمل ، وفي ب : يجعل.
(٣) سقط في أ.