ويحتمل : أيعجبون أن أوحينا إلى رجل منهم على الاستئناف ، كانوا يعجبون من ثلاث : من إنزال القرآن على رجل منهم يعجز الخلائق عن إتيان مثله ، ويعجبون من الوحى إلى رجل منهم وإرساله رسولا من بين الكل أو من البشر ؛ كقوله : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ؛ وكقوله : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ...) [ص : ٨] ، وكانوا يعجبون من البعث ؛ كقولهم : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ...) الآية [ق : ٣].
ثم يحتمل قوله : (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي : من البشر ، أي : لا تعجبوا أن أوحينا إلى رجل من البشر ؛ فإن الإيحاء إلى من هو من البشر أبلغ في الحجاج وأقطع للعذر ، وأقرب إلى الرأفة والرحمة ؛ لأن البشر يعرفون خروج ما هو خارج عن طوق البشر ووسعهم ، ولا يعرفون ذلك من غير جوهرهم وغير جنسهم ، ويألف كل جنس بجنسه وكل جوهر بجوهره ، ولا يألف غير جوهره ولا غير جنسه ، فإذا كان ما وصفنا كان بعث الرسول من جنس المبعوث إليهم وجوهرهم أبلغ في الحجاج وأقطع للعذر ، وأقرب إلى الرأفة والرحمة.
ويحتمل قوله : (أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي : من الأميين ، أي : لا يعجبون (١) أن أوحينا إلى رجل منهم ، أي : أمي فإن ذلك أبلغ في التعريف والحجاج ؛ لأنه بعث أميّا لم يعرفوه بدراسة الكتب المتقدمة أو تلاوة شيء منها ، ولا عرفوه اختلف إلى أحد منهم في تعليم كتبهم ، ولا عرف أنه كتب شيئا ولا (٢) خط خطا قط ، ثم أخبر عما في كتبهم على موافقة ما فيها ، وكانت كتبهم بغير لسانه ؛ دل أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى ؛ فذلك أبلغ في إثبات الرسالة والحجاج ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) : قال بعضهم : الإنذار يكون في كل مكروه مرهوب ، والبشارة في كل محبوب مرغوب.
وقال بعضهم : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) يعني : الكفار بالنار.
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ثم اختلفوا في قوله : (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) : قال بعضهم : إن لهم الجنة عند ربهم.
وقيل : إن لهم الأعمال الصالحة يقدمون عليها (٣).
__________________
(١) في ب : تعجبوا.
(٢) في أ : أو.
(٣) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٢٧ ـ ٥٢٨) (١٧٥٤٥) عن مجاهد ، و (١٧٥٤٦) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٣٥) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.