والثاني : جعله مأمنا بالخلقة من ذا الوجه ، يجوز أن يقال : كيف سفك فيه الدماء وهتك فيه الحرم ؛ وهو بالخلقة جعله مأمنا؟
قيل : يجوز هذا بحق العقوبة ؛ وإن كان [بالخلقة](١) آمنا ؛ ألا ترى أنه قال : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ...) الآية [النساء : ١٦٠] الطيبات بالخلقة حلال ؛ لكنه حرم عليهم ذلك بالظلم الذي كان منهم ؛ بحق العقوبة والانتقام ، فعلى ذلك الحرم ؛ جعله مأمنا بالخلقة ، ثم قتل فيه عقوبة ؛ لما كان منهم من المعاصي. والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) الآية.
فإن قيل : كيف دعا وطلب منه العصمة ؛ وقد عصمه بالنبوة والرسالة ؛ واختارهما (٢) له من ذلك كله؟
قال بعض أهل التأويل : إنما سأل عصمة ولده وذريته ؛ لما علم أن ذريته قد يختلفون في دين الله وتوحيده ، وما ذكر نفسه ؛ لما المعروف أنّ من دعا لآخر بدأ بنفسه.
قالت المعتزلة : دعاء إبراهيم وطلبه العصمة ؛ مما ذكر ؛ يدل أنه [قد](٣) يجوز أن يدعى بدعوات عبادة ؛ وإن كان قد أعطاه ذلك ، أو يعلم أنه مغفور.
قيل : دعاء إبراهيم وغيره من الأنبياء عليهمالسلام ؛ يجوز أن يكون عصمتهم كانت مقرونة [بما طلبوه](٤) منه ، وسألوه وتضرعوا إليه ؛ إذ معلوم أنهم لم يستفيدوا تلك العصمة ؛ بإهمالهم [أنفسهم](٥) وتركهم إياها سدى ؛ بل إنما أوجب لهم ذلك بما أجهدوا أنفسهم في طاعة الله.
ثم الآية على المعتزلة من وجهين :
أحدهما : أن إبراهيم طلب منه العصمة عن عبادة الأصنام ، وهو علم أنه يعتصم إذا عصمه عن ذلك ، واهتدى إذا هداه ، وهم يقولون : الله يعصم ولا يعتصم العبد ، ويهدي ولا يهتدي العبد. ويقولون : إذا أعطى أحدا ذلك ، خرج ذلك من يده ، ولا يملك إعطاء ذلك ، فعلى قولهم تخرج دعوات الرسل على الاستهزاء أو على الكتمان ؛ لأن من سأل من آخر شيئا يعلم أنه ليس ذلك عنده ؛ فهو هزء ، أو سأل وهو يعلم أنه قد أعطاه ذلك ؛ فهو كتمان ، وكان خوف الأنبياء والرسل والكبراء من الخلق أشد وأكثر على دينهم ، والزيغ عما هم عليه ؛ لما خافوا أن يكونوا عند الله على غير ما هو عند أنفسهم ، كانوا أبدا
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في ب : اختارها.
(٣) سقط في ب.
(٤) سقط في أ.
(٥) سقط في أ.