يحتمل النهى نفسه نهاه أن يحزن عليهم ؛ إشفاقا عليهم ؛ بل أمره أن يغلظ عليهم ؛ كقوله : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣] ، وعلى هذا يخرج قوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر : ٨٨] أي : ارفق بهم ، ولن عليهم ، واشدد على أولئك ، واغلظ عليهم ؛ وهو ما وصفهم : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] ، (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] أخبر أنهم أهل شدة على الكفار وأهل غلظة ، رحماء بينهم ، وأهل ذلّة على المؤمنين ، وأهل شدة عليهم ؛ أي : على الكفار ، فعلى ذلك هذا.
ويحتمل أن ليس على النهي ؛ ولكن على التخفيف والتسلي ، ودفع الحزن عن نفسه ؛ لأنه كان يحزن لكفرهم بالله وتركهم الإيمان ؛ حتى كادت نفسه تتلف لذلك ؛ كقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) الآية [الشعراء : ٣] وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) الآية [فاطر : ٨] وأمثاله.
ويحتمل أيضا وجها آخر : وهو أنه كان يحزن عليهم ، ويضيق صدره ؛ لما مكروا به وكادوه ؛ كقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل : ١٢٧] فإني أكافئهم. والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ).
يحتمل : أنا النذير على معاصيه ، المبين على طاعاته ، أو النذير على العصاة من عذاب الله ، المبين لأموره ونواهيه. والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ).
قال الحسن : الكتب كلها قرآن ؛ يعني كتب الله اقتسموها وجعلوها عضين ؛ أي : فرقوها بالتحريف والتبديل ؛ فما وافقهم أخذوه ، وما لم يوافقهم غيّروه وبدلوه ؛ كقوله : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) [المائدة : ٤١] ونحوه ، فذلك اقتسامهم وتعضيتهم على قوله ، وكقوله : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام : ٩١] وقوله : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) [المؤمنون : ٥٣] ونحوه.
وقال بعضهم (١) : اقتسامهم : وهو أن نفرا من قريش كانوا اقتسموا عقار مكة ؛ ليصدّوا الناس عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ فيقول طائفة منهم ـ إذا سئلوا عنه ـ : هو كاهن ، وطائفة أخرى : هو شاعر ، ساحر ، مجنون ، ونحوه. وعضين : قولهم : هو : سحر ، شعر ، كهانة ، أساطير الأولين ، افترى على الله كذبا ، وأمثال ما قالوا. فذلك اقتسامهم
__________________
(١) قاله البغوي (٣ / ٥٨).