وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).
قال بعضهم (١) : (خَصِيمٌ) : هو الذي يجادل بالباطل (مُبِينٌ) : أي : ظاهر مجادلته بالباطل ومخاصمته.
وقال بعضهم : الخصيم : هو الجدل الذي يجادل فيما كان.
قال أبو عوسجة : الخصيم : هو المخاصم ، والمخاصم كلاهما خصيم ، ويقال : فلان [خصيمي أي :](٢) خصمي.
مبين : ظاهر خصومته ، والخصيم : هو الفعيل ، والفعيل : قد يستعمل في موضع الفاعل والمفعول جميعا ؛ فكأنه قال : فإذا هو خصيم (٣) مبين : أي : منقطع عن الخصومة ؛ بيّن انقطاعه ، وهو ما ذكر من خصومته في آية أخرى ؛ وانقطاع حجته ؛ حيث قال : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ* وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٧ ، ٧٨] فهذا احتجاج عليه ؛ فانقطعت (٤) حجته ، وبهت الذي أنكر قدرته على البعث ؛ حيث لم يتهيأ له جواب ما احتج عليه.
__________________
(١) قاله البغوي (٣ / ٦٢).
(٢) سقط في أ.
(٣) ووجه الاستدلال بكونه خصيما على وجود الإله المدبر الحكيم : أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء من نفوس سائر الحيوانات ؛ ألا ترى أن ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضة يميز الصديق والعدو ، ويهرب من الهرة ، ويلتجئ إلى الأم ويميز الغذاء الموافق ، والغذاء الذي لم يوافق؟!.
وأما ولد الإنسان فإنه حال انفصاله من بطن الأم لا يميز البتة بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع ، فظهر أن الإنسان في أول الحدوث أنقص حالا ، وأقل فطنة من سائر الحيوانات!.
ثم إن الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ، ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض ، ويقوى على معرفة الله ـ عزوجل ـ وصفاته ، وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ، ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله ـ تعالى ـ والخصومات الشديدة في كل المطالب ، فانتقال نفس الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد وأن يكون بتدبير مدبر مختار حكيم ينقل الأرواح من نقصانها إلى كمالاتها ، ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمة والاختيار ، فهذا هو المراد من قوله تعالى (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).
وفي معنى كونه خصيما مبينا وجهان :
الأول : أنه يجادل عن نفسه منازعا للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجمادا ، لا حس فيه ولا حركة ، والمقصود منه أن الانتقال من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبر حكيم.
والثاني : فإذا هو خصيم لربه ، منكر على خالقه ، قائل : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) والغرض وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتمادي في كفران النعمة.
ينظر اللباب (١٢ / ١٠ ، ١١).
(٤) في أ : فإذا انقطعت.