في الماء بالطبع من غير أن يعلم أنها تسبح (١) ، وكذلك الطير الذي يطير في الهواء من غير أن يعلم بالطيران ، فعلى ذلك يحتمل فهم هذه البهائم وعرفانها ما ذكرنا من المصالح والمهالك من غير أن يعلم أنها تعرف ذلك ، والله أعلم.
والثاني : يحتمل أن يكون الله ـ عزوجل ـ جعل خلقة هذه الأشياء بالذى يقفون على المخاطبات والأمر والنهي ، ويعرفون ذلك ما لا يعرف مثله البشر ألا ترى أن البشر لا يعرفون (٢) المهالك والمصالح إلا بالتعلم ، والبهائم وإن صغر ذلك تعرف حتى تتوقى المهالك وترغب في المصالح ، ومما يدل أن هذه الأشياء مما يفهم الأمر والنهي والمخاطبات قوله : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت : ٢٠ ، ٢١] ألا ترى أنهم فهموا الخطاب حيث ردوا عليهم الجواب بقوله : (أَنْطَقَنَا) فذلك ما ذكرنا ، والله أعلم.
فذلك الوحي والقذف لكل البهائم لا للنحل خاصّة لما ذكرنا من معرفتها المهالك والمصالح ، وما به معاشها وغذاؤها مما به فسادها وهلاكها حتى عرفت (٣) ذلك من غير أن تعلم ، والبشر لا يعرفون إلا بالتعلم ، فهو ـ والله أعلم ـ لوجهين :
أحدهما : للمحنة أن البشر امتحنوا بالتعليم ، فذلك من الله امتحان لهم ، والبهائم لا محنة عليهم ، [فعرفوا ذلك](٤) على غير تعلم ، أو كان ذلك للبشر بالتعلم ؛ لفضل بعض على بعض في العلم بالتعليم ؛ إذ البهائم يستوى صغيرها وكبيرها في معرفة ذلك ، وفي بنى آدم [تتفاضل وتتفاوت](٥) بالتعلم ، والله أعلم.
فإن قيل : فإذا كانت (٦) البهائم كلها مشتركة في ذلك الإلهام والوحي فما معنى تخصيص النحل بالذكر من غيرها من البهائم؟
قيل : يحتمل تخصيص النحل بالذكر ـ والله أعلم ـ لما أن هذه الأشياء غير النحل لا تعطي تلك المنافع التي جعلت فيها ، ولا تبذل للبشر إلا بالرياضة [والتعلم](٧) ، والنحل تعطي ذلك لهم وتبذل من غير تعلم ولا رياضة ، والله أعلم.
ثم قوله : (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) وقوله : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) وقوله : (فَاسْلُكِي
__________________
(١) في أ : سباحة.
(٢) في ب : يعرف.
(٣) في أ : يعرفن.
(٤) في ب : فذلك عرفوا.
(٥) في أ : يتفاضل ويتفاوت.
(٦) في أ : كان.
(٧) سقط في أ.