أو يقول : أو لم يروا إلى اللطف الذي جعل في الطير ، والحكمة التي أنشأ فيها حتى قدرت على الاستمساك في الهواء ، والطيران في الجو : ما لو اجتمع الخلائق جميعا أن يدركوا ذلك اللطف أو تلك الحكمة ـ ما قدروا على إدراكه.
وفى ذلك نقض قول المعتزلة ؛ لأن الطيران فعل الطير ، ثم أضاف ذلك إلى الله حيث قال : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) : دلّ ذلك أن لله في ذلك صنعا وفعلا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
جميع ما ذكر يكون آية لمن آمن ؛ لأنه هو المنتفع.
قال أبو عوسجة : لمح البصر : سرعة النظر ، وجوّ السماء : هواؤها ، ويقال : بطن السماء ، ويقال : جوف السماء ، ويقال : الجوّ : ما اطمأن من الأرض. والأوّل أشبه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً).
ظاهر هذا أنه قد جعل لنا من البيوت ـ أيضا ـ ما ليس بسكن (١) ؛ لأنه قال : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) ، وهو ما ذكر في قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) [النور : ٢٩] : وهو كالمساجد والرباطات وغيرها. ويشبه أن يكون ذكر هذا ؛ ليعرفوا عظيم مننه ونعمه ، حيث جعل الأرض بمحل يقرّون عليها ويمكن لهم المقام بها ؛ بالرواسى التي ذكر أنه أثبت فيها بعد ما كانت تميد بهم ولا تقر بها ، أخبر أنه [جعل] فيها رواسى أو أن يكون حرف (من) صلة ، أي : جعل لكم بيوتا تسكنون فيها.
ثم قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) يحتمل وجهين :
أحدهما : أي : سخر لكم الأرض حتى قدرتم على اتخاذ المساكن فيها تسكنون (٢).
أو جعل لكم بيوتا ، أي : علمكم تسكنون فيها.
ثم قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) : أي [علمكم](٣) ما تبنون فيها من البيوت
__________________
(١) والسكن : ما سكنت إليه ، وما سكنت فيه ، قال الزمخشري : (السكن : ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف). واعلم أن البيوت التي يسكن فيها الإنسان على قسمين :
أحدهما : البيوت المتخذة من الحجر والمدر ، وهي المرادة من قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) وهذا القسم لا يمكن نقله بل الإنسان ينتقل إليه.
والثاني : البيوت المتخذة من القباب والخيام والفساطيط ، وهي المرادة بقوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها) وهذا القسم يمكن نقله مع الإنسان.
ينظر : اللباب (١٢ / ١٣١ ، ١٣٢).
(٢) زاد في ب : فيها.
(٣) سقط في أ.