المشيئة التي [هي غائبة](١) أنها لو كانت لآمنوا هذا فاسد على قولهم.
وبعد فإن المشيئة لو كانت مشيئة القهر لكانوا مؤمنين بتلك المشيئة وهي خلقة ؛ لأن كل كافر مؤمن بخلقته ؛ لأن خلقة كل أحد تشهد على وحدانية الله ، فإذا كانوا مؤمنين بالخلقة ثم ذكر أنه لو شاء لآمنوا دل أنه لم يرد به مشيئة القهر ولكنه أراد مشيئة الاختيار ، وتأويله عندنا هو أن عند الله تعالى لطف لو أعطاهم كلهم لآمنوا جميعا ، لكنه إذ علم أنهم لا يؤمنون لم يعطهم وهو التوفيق والعصمة ، لكنه إذ علم منهم أنهم لا يؤمنون شاء ألا يؤمنوا ، ثم لا يحتمل أن يتحقق الإيمان بالجبر والقهر ؛ لأنه عمل القلب والجبر والإكراه مما لا يعمل على (٢) القلب ، فهو وإن تكلم بكلام الإيمان فلا يكون مؤمنا حتى يؤمن بالقلب ، فيكون التأويل على قولهم : ولو شاء ربك فلا يؤمنوا ، فهذا متناقض فاسد.
وبعد فإن الإيمان لا يكون في حال الإكراه والإجبار ؛ لأن الإكراه يزيل الفعل عن المكره كأن لا فعل له في الحكم.
وقوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) فإن قيل : أليس قال الله ـ عزوجل ـ : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] أي : حتى يسلموا وذلك إكراه ، وقال [رسول الله صلىاللهعليهوسلم](٣) : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله» (٤) فذلك إكراه ، فكيف يجمع بين الآيتين؟! قيل لوجهين :
أحدهما : ما ذكر أن هذه السورة مكية ، وقوله : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] مدنية ، فيحتمل قوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : لا تكرههم ثم أمر بالقتال بالمدينة والحرب والإكراه عليه.
والثاني : يجوز أن يجمع بين الآيتين ، وهو أن يكون قوله : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] أي : تقاتلونهم حتى يقولوا قول إسلام ويتكلموا بكلام الإيمان ، دليله (٥) ما روي : «حتى يقولوا : لا إله إلا الله» ، والقول : بلا لا إله إلا الله على غير حقيقة ذلك في القلب ليس بإيمان ، وفي هذه الآية حتى يكونوا مؤمنين وبالإكراه لا يكونون مؤمنين
__________________
(١) في أ : هو غاية.
(٢) في أ : عمل.
(٣) سقط في ب.
(٤) أخرجه البخاري (٣ / ٣٠٨) كتاب الزكاة ، باب وجوب الزكاة (١٣٩٩) وفي (١٢ / ٢٨٨) كتاب استتابة المرتدين (٦٩٢٤) وفي (١٣ / ٢٦٤) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (٧٢٨٤) ومسلم (١ / ٥٢) كتاب الإيمان ، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا : «لا إله إلا الله» (٣٣ / ٢١).
(٥) في ب : حتى.