ثم استثنى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، أي : الذين آمنوا ، واعتقدوا في إيمانهم الأعمال الصالحات ، فإنهم لا يبغون بعضهم على بعض ، ثم أخبر أن من آمن واعتقد في إيمانه العمل الصالح ، أي : من اتقى من المؤمنين قليل و [من] ترك البغي قليل منهم ، وهذه الآية شديدة صعبة على ما ذكرنا.
وفيه أن المؤمن الذي اعتقد في إيمانه العمل الصالح وترك البغي على غيره ـ قليل في كل زمان ودهر ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ).
أي : علم داود وأيقن أن خصومة الملكين عنده فيما اختصما فيه محنة له ، هو الممتحن بها ، لا أنهما كانا ممتحنين بذلك ؛ فاستغفر ربه إذ أيقن بذلك أنه هو الممتحن بذلك لا غيره ، والله أعلم.
ثم فسر أهل التأويل الظن هاهنا : الإيقان ، أي : أيقن ، وكأن الإيقان هو علم يستفاد بالأسباب ، على ما استفاد داود ـ عليهالسلام ـ علما بخصومة الملكين عنده ؛ ولذلك لا يضاف الإيقان إلى الله أنه أيقن كذا لأنه علم يستفاد بالأسباب ، وهو عالم بذاته لا بسبب ، وأما العلم فإنه قد يستفاد بسبب وبغير [سبب] ؛ لذلك أضيف إليه حرف العلم ولم يضف حرف الإيقان ، والله أعلم.
فإن قيل : ما الحكمة في ذكر زلات الرسل ـ عليهمالسلام ـ والأصفياء في الكتاب ، وهو وصف نفسه أنه غفور وأنه ستور ، وقد أمرنا لنستر على من ارتكب شيئا من ذلك وبالغفران والعفو ، فكيف ذكر هو زلات أنبيائه وأصفيائه حتى نقرأ زلاتهم في المساجد والمكاتب بأعلى صوت إلى يوم التناد ، وما الحكمة في ذكر ذلك؟!
قال الشيخ أبو منصور محمد بن محمد الفقيه ـ رضي الله عنه ـ : يخرج ذكر زلات الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ في القرآن وترك الستر عليهم على وجوه :
أحدها : ذكرها ؛ ليكون ذلك آية لرسالة محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ لأن قلوب الخلق وأنفسهم لا يحتمل ذكر مساوئ الآباء والأجداد ، وكذلك لا تحتمل قلوبهم ذكر مساوئ أنفسهم ، فإذا ذكر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذلك ؛ دل أنه على أمر من الله ـ عزوجل ـ يذكر ذلك ؛ ليعلم الناس أنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأنه عن أمر منه ذكر ذلك ، والله أعلم.
والثاني : ذكر زلاتهم امتحانا منه عباده أن كيف يعاملون رسلهم بعد ما عرفوا منهم الزلات وأظهر عنهم العثرات؟ وكيف ينظرون بعين الرحمة والرأفة؟ يمتحنهم بذلك على ما امتحنهم بسائر أنواع المحن.