وهذا بخلاف القضيّة العقليّة ؛ فإنّ الموجود فيها شيئان : موضوع ، ومحمول. وأمّا العلّة فهي عين الموضوع فيها وليست شيئا آخر. والسّر فيه : أنّ القضايا العقليّة كلّها قضايا لبّيّة يحكم العقل فيها بنفس ما هو المناط الأوّلي للحكم ، فالمعروض لحكمه ليس إلاّ نفس ما هو المناط للحكم أوّلا ، الّذي لا يعقل له تركّب في هذا العالم ولا رافع له ، بل هو أمر بسيط وحدانيّ ، وإن عرض له التّركيب في عالم التّحليل.
ومثل حكم العقل من الجهة المذكورة : حكم الشّرع النّفس الأمري المعبّر عنه في لسان جماعة بالإرادة النّفسانيّة ؛ فإنّه أيضا لا يعرض إلاّ الموضوع الأوّلي والمناط الحقيقي ؛ ضرورة أنّ العالم بالغيب لا يتعلّق إرادته إلاّ مما هو العلّة الأوّليّة ، فهذا الحكم الشّرعي كالعقلي يكون الشّك فيه دائما : من جهة الشّك في بقاء الموضوع.
ومن هنا اتّفقت كلمتهم ظاهرا : على امتناع النّسخ الحقيقي في الأحكام الشّرعيّة ، إلاّ أنّ هنا حكم شرعيّ آخر تعلّق بما هو الموضوع في الأدلّة الشّرعيّة ، وهذا الموضوع يمكن أن يكون أعمّ من المناط الواقعي بالمعنى الّذي عرفته ؛ إذ لم يقض دليل على كون الواجب على الشارع جعل الموضوع في القضايا المبنيّة فيها الأحكام للعباد ظاهرا هو نفس ما هو العلّة للحكم ، ففرض إحرازه والحكم ببقائه يجمع مع الشّك في وجود المناط في الزّمان الثّاني ، فيحكم بمقتضى أخبار الاستصحاب بعد فرض تحقّقه موضوعا على الالتزام بالحكم المتيقّن سابقا من باب التّعبّد.
والقول : بأن مقتضى حكم الشرع تعبّدا بوجوب الحكم ببقاء الحكم يستلزم