فقد نزلت في القرآن آية تضمّنت الحكم العام لآداب التلاوة وجرت على نسق مختصر : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) وحدث بعد نزولها بنيف وألف وثلثمائة عام أن اخترع المذياع ( الراديو والتلفزيون ) ، ولما بدأ باذاعة آيات الذكر الحكيم به ، بدأ التسائل عن حكم الشرع والدين في ذلك أحلال هو أم حرام ؟ وهل تصح اذاعته في منتدى ترتكب فيه الآثام والموبقات وتدار كؤوس الخمر ؟
لا بدع في أنّ حكم هذه الجزئية لم يرد بنص صريح في الكتاب ، وانّ ذلك ترك للاجتهاد على هدى الحكم العام الوارد بالآية الشريفة ، لا بدع في ذلك ، إذ لو اُريد للشريعة أن تتضمّن الأحكام المفصلة لجميع الفروع والجزئيات لوجب أوّلاً افهام الذين نزل عليهم الدين وقت الرسالة ما هو الراديو وما هو التلفزيون ، ولو حاول الرسول ذلك وقال لهم : إنّ مخترعات البشر باذن الله ستجيء للعالم بعد ألف وثلثمائة عام بآلة يستطيع بها الانسان أن يسمع ويرى صورة المحدث وهو على بعد آلاف الفراسخ والأميال ، لما صدّقوه لعدم امكانهم تصوره ولجادلوه فأكثروا جداله في كنه تلك الآلة ، ولما لزمتهم حجته في أنّ الذي يقوله ليس من عنده وإنّما هو من عند الله لأنّ الحجة لا تلزمها صفة الاقناع إلاّ متى دخلت مناط العقل ، أمّا إذا كانت فوق إدراك المرسل إليهم فهي داحضة ...
والاجتهاد هو الباب الذي دخلت منه إلى حضيرة الشريعة الإسلامية كل الحضارات بما فيها من مشاكل قانونية ومالية واجتماعية فوسعها جميعاً وبسط عليها من محكم آياته وسديد قواعده ما أصاب المحجة ، فكان للشريعة الإسلامية في ذلك تراث ضخم تسامي على كل الشرائع وأحاط بكل صغيرة وكبيرة من اُمور الدين والدنيا ...
أفبعد ذلك يصح في الأفهام أن تتهم الشريعة الإسلامية بالقصور ، أو بأنّها نزلت لعرب الجزيرة لتعالج اُمورهم في حقبة من الزمان انقضى عهدها ، أو أنّها تضيق عن أن تجد الحلول لمشاكل الحضارات الحديثة ، إرجعوا إليها وإلى تراثها الضخم تجدوا أنّها عالجت الجليل والخطير والصغير والكبير من اُمور الدين والدنيا فيها ذكر ما مضى ،