وفيها ذكر الحاضر ، وفيها ذكر المستقبل وسيظل العلم الحديث يكشف عمّا فيها من كنوز وستترى المشاكل على العالم جيل بعد جيل ، ويضطرب العالم في محاولة الحلول لها دون جدوى إلاّ إذا رجع إلى أحكام هذا الدين وهذه الشريعة المحكمة السمحة ، حيث الدواء الشافي والعلاج الحاسم لكل ما يجيب العالم في حاضره وفي مستقبله (١).
وممّا يؤيد لزوم انفتاح باب الاجتهاد إلى يوم القيامة هو ما ذكره المقريزي في خططه حيث قال ما هذا ملخّصه :
انّه لم يكن كل واحد من أصحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم متمكناً من دوام الحضور عنده صلىاللهعليهوآلهوسلم لأخذ الأحكام عنه ، بل كان في مدة حياته يحضره بعضهم دون بعض وفي وقت دون وقت ، وكان يسمع جواب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن كل مسألة يسأل عنها بعض الأصحاب ويفوت عن الآخرين فلمّا تفرق الأصحاب بعد وفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم في البلدان تفرقت الأحكام المروية عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم فيها ، فيروى في كل بلدة منها جملة ، ويروى عنه في غير تلك البلدة جملة اُخرى حيث أنّه قد حضر المدني من الأحكام ما لم يحضره المصري ، وحضر المصري ما لم يحضره الشامي ، وحضر الشامي ما لم يحضره البصري ، وحضر البصري ما لم يحضره الكوفي إلى غير ذلك ، وكان كل منهم يجتهد فيما لم يحضره من الأحكام.
ولعدم تساوي هؤلاء المجتهدين في العلوم والإدراكات وسائر القوى والملكات تختلف طبعاً الآراء والاجتهادات ، فمجرد تفاوت أشخاص الصحابة تسبب اختلاف فتواهم ثم تزايد ذلك الاختلاف بعد عصر الصحابة.
ثم قال : ثم بعد الصحابة تبع التابعون فتاوى الصحابة فكانوا لا يتعدون عنها غالباً ، ولما مضى عصر الصحابة والتابعين صار الأمر إلى فقهاء الأمصار أبي حنيفة والسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة ، وابن جريح بمكة ، ومالك وابن الماجشون بالمدينة ، وعثمان التيمي ( الظاهر عثمان بن مسلم البطي ) وسوار بالبصرة ، والأوزاعي بالشام والليث بن سعد بمصر فكان هؤلاء الفقهاء يأخذون من التابعين وتابعيهم أو يجتهدون.
__________________
(١) مجلة رسالة الإسلام لجماعة دار التقريب العدد الأوّل من السنة الخامسة.