ذلك النيل في حال اليقظة إلاّ ما كان إلى زواله سبيل ، ولارتفاعه إمكان ، أمّا التجربة فالتسامح والتعارف يشهدان به ، وليس أحد من الناس إلاّ وقد جرب ذلك في نفسه ، تجارب ألهمته التصديق اللّهمّ إلاّ أن يكون أحدهم فاسد المزاج ، نائم قوي التخيل والتذكر ، وأمّا القياس فاستبصر فيه من تنبيهات » ثم ذكر بعض التنبيهات لاثبات ما ارتآه (١).
وقد صرّح بذلك في آيات :
الاُولى : قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) ( الجن : ٢٦ ـ ٢٨ ) فمعناه أن الغيب كلّه مختص به ، لا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول فيظهر رسوله على ما شاء من الغيب ، فهذه الآية إذا انضمت إلى قوله سبحانه : ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ ) ( النمل ـ ٦٥ ) يتضح أنّ الهدف من الآية ، اختصاصه به على وجه الأصالة والذاتية ، واطلاع الغير بتعليم منه سبحانه وليس ابطالاً له بل استثناء منه يشبه الاستثناء المنقطع ، فإنّ علمه بالأشياء بالأصالة وعلم غيره بالتبعية ، والعلم التبعي الاستنادي ، لم يكن داخلاً فيه ، حتى يحتاج إلى اخراجه إلاّ بضرب من التأويل ، لتشابه بين العلمين من بعض الجهات وإن افترقا من جهات شتى ، فصح أن يقال : إنّ العلم بالغيب مختص به سبحانه وفي الوقت نفسه يظهر على غيبه بعض عباده من دون أن يمس كرامة اختصاصه به.
ونظير المقام قوله سبحانه : ( اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ( الزمر ـ ٤٢ ) فهو ظاهر في أنّ التوفّي منحصر في الله سبحانه مع أنّه سبحانه أسنده إلى ملك الموت في مورد وإلى رسله في مورد آخر ، وقال : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) ( السجدة ـ ١١ ) فالتوفّي وأخذ الأرواح والنفوس ، من فعل الله سبحانه على وجه
__________________
(١) راجع الاشارات والتنبيهات النمط العاشر ج ٣ ص ٣٩٩.